للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[إبرة المغناطيس]

للدكتور عبد الوهاب عزام

جلست إلى مكتبي البارحة، فوقع بصري على (بيت الإبرة) فانفتحت أمامي سبل من الفكر لا تحدها غاية. واني إذ أحاول أن أقيد هذه الفكر على القرطاس لمَحاول أن أسلسل بهذه الأحرف خطرات الفكر الخاطفة التي تطوي الأجيال والأقطار في لمحات. وتجمع السماء والأرض في طرفة عين:

قلت ما اعجب هذه الإبرة! إنها هادية لا تضل، عارفة لا تخطئ. تنتحي الشمال مهما أدرتها عنه، ولا تنسى عهد المغناطيس مهما أبعدتها منه. ومهما جمعت عليها من الحجب والظلمات، وأضعفت لها في المسافات، فهي مولية وجهها شطره محسة جذبه، موصولة به، خبيرة بوحيه، لا تنساه ولا تشرك في هواه. ليت شعري أأهدى من الإنسان هذه الإبرة الصغيرة! اجل إنها لتهدي الإنسان في البر والبحر والسفر والحضر.

أحسست حينئذ خفقان قلبي يذكرني إن في صدر الإنسان إبرة أخرى مرشدة هادية، تتوجه شطر معدنها أبداً ولا يصدها عنه تطاول الأمد وبعد المدى.

ألم تهد هذه الإبرة الأمم في ظلمات الجاهلية، وغيابات القرون، فعصمتهم على العلات من الهلاك، وأخرجتهم إلى النور على تكاثف الظلمات ولا تزال هادية بصيرة بالغاية، خبيرة بالسبيل إليها - كم عبدت الإنسان شهواته؛ وأضلته عن الخير مطامعه. فما زالت هذه الإبرة تضطرب في صدره حتى اهتدى سبيل النجاة، ووضع على هداها منار الطريق. كم طغت بالإنسان ضغائنه وأحقاده، فما زالت هذه الإبرة تخفق في جوانحه حتى عرف إلى الحب والألفة والمودة السبيل، واستقام على النهج لا يميل. وكم غلا الإنسان في ظلمه وعدوانه، فما زالت تتحرك في أضلاعه حتى أشعرته نفسها ثم ردته إلى خطة للعدل محمودة، وسبيل إلى الإنصاف رشيدة. وكم غدر الإنسان ثم اهتدى بها إلى الوفاء فندم على ما قدم، واغتبط بما اهتدى. وكم أجرم الإنسان فوخزته فأفاق، فكأنما صور خلقا آخر ينفر من الإجرام، ويركن إلى السكينة والسلام. وكم سفلت بالإنسان سجاياه، فعملت في صدره حتى سمت به إلى العلياء، وطارت به من الحضيض إلى عنان السماء. وكم وقفت بالإنسان همته فدفعته هذه الإبرة العجيبة فمضى قدما إلى العمل، وهمزته فداب لا يعرف

<<  <  ج:
ص:  >  >>