وحدثني صاحب سر (م) باشا، نَجَمَتْ في مصر حركة بعقِب أيام البدعة التركية حين لم تبق لشيء هناك قاعدة إلا القاعدة الواحدة التي تقررها المشانق. . . . فمن أبى أن يخلع العمامة عن رأسه خلعوا رأسه، ومن قال (لا) انقلبت (لا) هذه مشنقة فعُلِّق فيها.
وكانت فكرة اتخاذ القبَّعة في تركيا غطاءً للرأس قد جاءت بعد نَزَعات من مثلها كما يجيء الحِذاء في آخر ما يلبس للابس، فلم يشك أحد أنها ليست قبعة على الرأس أكثر مما هي طريقة لتربية الرأس المسلم تربية جديدة ليس فيها ركعة ولا سجدة؛ وإلا فنحن نرى هذه القبعة على رأس الزَّنجي والهمجي، وعلى رأس الأبله والمجنون، فما رأيناها جعلت الأسود أبيض، ولا عرفناها نقلت همجياً عن طبعه، ولا زعم أحدٌ أنها أكملت العقل الناقص أو ردَّت العقل الذاهب، أو انقلبت آلة لحل مشكلات الرأس البليد، أو غَصَبَت الطبيعة شيئاً وقالت هذا لحاملي دون الطربوش والعمامة.
وقد احتجُّوا يومئذ لصاحب تلك البدعة أنه لا يرى الوجه إلا المدنية، ولا يعرف المدنية إلا مدنية أوربا، فهو يمتثلها كما هي في حسناتها وسيئاتها، وما يَحِلُّ وما يَحْرُم، وما يكون في حاجة إليه وما يكون في غنى عنه؛ حتى لو أن الأوربيين كانوا عُوراً بالطبيعة لجعل هو قومه عوراً بالصناعة ليشبهوا الأوربيين. . نعم إنها حجة تامة لولا نقص قليل في البرهان يمكن تلافيه بإخراج طبعة جديدة من كتب الفُتوح العثمانية يظهر فيها الخلفاء العظام والأبطال المغاوير الذين قهروا الأوربيين لابسين قبَّعات ليشبهوا الأوربيين. . . .
قال صاحب السر: وتهوَّر في هذه الضلالة رَهطٌ من قومنا، وأخذوا يدعون إلى التقبُّع في مصر احتذاء لتركيا، وذهب بعضهم إلى سعد باشا رحمه الله يطلب رأيه، فكان رأيه (لا) بمدِّ الأَلِف. . . وعهد إليّ بعضهم أن أسأل الباشا فقال:
ويحهم! ألا يخجلون أن نكون نحن المصريين مقلدين للتقليد نفسه؟ إن هذه بدعة تنحطُّ عندنا درجة عن الأصل فكأنها بدعتان. ثم ضحك الباشا وقال: كان في القديم رجل سمع أن البصل بالخل نافع للصفراء، فذهب إلى بستان يملكه وقال لوكيله: ازرع لي بصلاً بخل. . . . هكذا يريدون من القبعات أن تخرج لهم تُركا بأوربيين.