كانت الإسكندرية تلي القاهرة من حيث المكانة العلمية في ذلك الحين، حفلة بطائفة كبيرة من أعيان العلماء، في مواد الثقافة المختلفة، ودرس فيها كثير من رجال السنة، حتى في الوقت الذي كان مذهب أهل الشيعة سائداً فيها، وأنشئت فيها أول مدرسة في الديار المصرية كلها، وإليها رحل صلاح الدين لاستماع حديث رسول الله.
وقبل أن تنشأ المدارس بها، كان جامع العطارين منذ أنشأه أمير الجيوش بدر الجمالي سنة ٤٧٧هـ. معهد علم وينبوع ثقافة، وقد ظل يؤدي رسالته طول عصر الحروب الصليبية، ويساهم مساهمة جدية في نشر العرفان.
وتنوعت الدراسات في جامع العطارين؛ فهذا عمرو بن عيسى السوسي نحوي أخذ عنه النحو أكثر أهل الإسكندرية؛ وكان يقرأ لهم فيه كتاب سيبويه وتوفي سنة ٤٩٨هـ. وهذا عبد الرحمن ابن أبي بكر بن خلف شيخ الإسكندرية الذي انتهت إليه رياسة الإقراء فيها، ونبغ حتى قال فيه سليمان بن عبد العزيز الأندلسي: ما رأيت أحدا أعلم بالقراءات منه، لا بالمشرق ولا بالمغرب. وهذا محمد بن أحمد بن الخطاب شيخ الإسكندرية في الحديث وتوفي سنة ٥٢٥. أما أبو القاسم بن مخلوف فأحد كبار المالكية الذين أذاعوا هذا المذهب في الإسكندرية. وكان لمحمد بن الحسن بن زراره حلقة في الجامع لإقراء الأدب كما كان المشرف على خزانة الكتب فيه. وممن سجل لهم التاريخ تدريسهم بالجامع الجيوشي العالم الأديب أحمد بن محمد بن المنير أحد الأئمة المتبحرين في التفسير وفقه المالكية والأصول والبلاغة كما كانت له اليد الطولي في علم الأدب. وكان عز الدين بن عبد السلام يقول عنه: الديار المصرية تفتخر برجلين في طرفها: ابن دقيق العيد بقوص، وابن المنير بالإسكندرية.
وأول مدرسة أنشئت بهذا الثغر المدرسة الحافظية التي أقيمت في عهد الحافظ الفاطمي (٥٢٤ - ٥٤٤ هـ) ويظهر أنها أنشئت في عهد الوزير أحمد بن الأفضل بن أمير الجيوش لتدريس علوم الشريعة. ويحفظ لنا القلقشندي في كتاب صبح الأعشى (ج ١٠ص