للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[في منظار (الخفيف)]

للأستاذ على الطنطاوي

لم يعلم أحد لِم لم يكتب الصديق النبيل الأستاذ محمود الخفيف في العدد الماضي من (الرسالة)، ولم يعلم هو من الأمر إلا أنه فقد منظاره فجأة، ثم وجده كما فقده فجأة، لم يدر أين ذهب ولا كيف أتى، ولم يعرف سر المسألة إلا أنا، لأني سرقت (المنظار) من جيبه لما زارني في (الرسالة) في الأسبوع الماضي، ورددته إلى جيبه لما مر بي أمس، وقد كان عرض علي أن يعيرنيه لما رأى رغبتي فيه، ولكني خشيت (وسوء الظن عصمة) أن يفسده أو يصنع به شيئاً يمنعني من الاستمتاع به، كيلا أعود إلى طلبه منه، فآثرت أن آخذه على حين غفلة منه لأستعمله صحيحاً غير فاسد، ثم أن السرقة أخت الاغتصاب؛ وقد نص (الشاعر) على أن:

من أطاق التماس شيء غلاباً ... واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا

والشعراء أئمة الأدب، ولا يستطيع (مقلد) مثلي مخالفة نصوص (الأئمة). . . لذلك

سرقت (المنظار)، ولكني لم أر مثل تلك الصور الفنية الكاملة التي كان يراها الأستاذ محمود، وإنما رأيت. . . اسمعوا ماذا رأيت:

وضعت (المنظار) على عيني، وخرجت به من الدار، وكنت على موعد مع الأستاذ نهاد القاسم لنزور جامع محمد علي، وسرت أنظر إلى بعيد، فلم أخط خطوات حتى أحسست برجة في جسدين وألم في ركبتي وقدمي، وإذا أنا قد سقطت في حفرة لم أنتبه لها.

وأقبل المارة يخرجونني ويسألونني كيف وقعت؟!

قلت: كما وقع الفلكي الذي كان ينظر في النجوم ومسالكها، ويدقق في حركاتها وسكناتها، ويعمى عما تحت قدميه، وكما (يسقط) الكاتب الذي يتكلم في الفلسفات العليا، ويغفل عن أدواء أمته وأمراضها، والشاعر الذي يحلق في سماوات الخيال، ويدع أمته تتمرغ في حضيض الشقاء. . .

وتركتهم يعجبون من هذا الكلام الذي حسبوه كلام مجنون. . . وسرت حذراً. . . أنظر حولي كيلا ألدغ مرتين من جحر واحد، فأكون شراً من الحمار، لأن الحمار إن سقط في حفرة مرة، يجتنبها فلا يسقط فيها أخرى، والإنسان (الذي يؤمن به أخونا الأستاذ خلاف)

<<  <  ج:
ص:  >  >>