لا ريب أن الموسيقى من أعظم الفنون الجميلة التي أصبحت من
الضروريات عند كل الطبقات، وقد بلغت أوجها عند الأمم الراقية،
وتمشت مع التمدن حتى أصبحت معيار المدنية والرقي.
الموسيقى الراقية كالشعر بل هي متممة له، لأن كثيراً من الحالات النفسية العميقة لا يستطيع الكلام أن يعبر عنها، وإني أضرب لك مثلاً سهلاً:
إذا قرأت أمام أمي جاهل مرثية من أروع الشعر الجاهلي فهل يظهر عليه أي تأثر؟
أعد الكرة أمام الرجل نفسه وأسمعه مرثية موسيقية راقية فلا ريب أنها تهزه وتحزنه حتى تقرأ علامات الحزن على وجهه ولربما لا يقوى على ضبط نفسه فيتأوه أو يخونه الدمع إن كان رقيق الشعور.
إن لم تكن الموسيقى واصفة ومصورة لكل ما تقع عليه العين من محاسن الطبيعة، ومعبرة كالشعر عن أسمى العواطف وأرق الشعور والوجدان، فأولى بها أن تسمى لغطاً وجلبة تصدع الرؤوس وتسئم النفوس.
لقد اهتمت مصر بالعلوم والآداب والفنون وأحرزت نصيباً يقارب الضروريات، ولكنها متقهقرة في الموسيقى. ولم نر واحداً من أبناء الأغنياء أولع بهذا الفن وحاول أن يدرسه دراسة تامة تؤهله لخدمة الموسيقى والنهوض بها إلى أوج الكمال. ولا يتأتى بلوغ هذه الغاية إلا بدراسة الموسيقى الإفرنجية، ثم العربية مع نصيب كاف من الثقافة العامة ولاسيما الآداب وتاريخ الفنون الجميلة، لأنهما يثقفان الذوق ويشحذان الخيال ويرهفان العواطف.
إننا بدراسة الموسيقى الإفرنجية بفروعها من سولفيج وأرموني وكونتريوان وتوزيع الموسيقى على الآلات نتمكن من إتقان الإملاء الموسيقي بأن نكتب موسيقى الدور أو القطعة بمجرد سماعها، ونرقى في التلحين إذا نبغنا في الارموني واستطعنا أن نسترشد بها لوضع أرموني تتناسب مع موسيقانا العربية. أما الكونتريوان فأنها تتمشى مع موسيقانا ولا تتنافر معها ولا تحدث فيها أية شائبة.