يصف عامتنا الرجل الطويل اللسان الذي لا يكتم الحق، والذي يلقيه على عواهنه يخز به الصغير ويخدش به كبرياء المتكبر، ويجر به الخير ويسبب به الكارثة. . . بأنه (مسحوب من لسانه) وهذا الوصف يفهم فهمين: الفهم الأول هو ما تؤدي إليه هذه الصورة المادية التي يقعد عند إدراكها القانعون بالصور المادية، والفهم الثاني هو ما يدركه الطماحون الذين يسعون إلى المعاني، والموهوبون الذين تسعى المعاني إليهم، وهو أن يُعتبر الرجل المسحوب من لسانه إنساناً إذا رأى الحق انشدَّ إليه فلم يتثاقل عليه، ولم يفكر في الامتناع عنه، ولم يتريث في الذهاب إليه، وإنما هو يندفع قاصداً إياه ليسكن فيه، ولينعم بلذة هي السكنى، ولينتشي بما تبعثه في نفسه من الاطمئنان الذي لا يرتاح إلا إذا حصله والذي يقلق إذا فوّته، وهو في اندفاعه نحو الحق لا يمشي على رجليه، ولا يطير بجناحيه، وإنما يحرك لسانه بالقول يقرر به الحق الذي لمحه من غير جهد يبذله في تحريك لسانه، ولا عناء يتجشمه في تقريره للحق. بل إن الجهد يبذله إذا أمسك لسانه، والعناء يتجشمه إذا قاوم الحق وتعنت معه والتوى عليه. . .
وهذه الصورة المعنوية للرجل المسحوب من لسانه هي نفسها صورة المجذوب الذي يبيع الدنيا بكلمة حق يقولها فيفتقر ويخسر الناس، ويطيح إلى خارج أنظمتهم وقواعدهم، ويعدم النصراء منهم والأنصار ويتلقى على أم ناصيته التهم تكال له جزافاً أشرفها وأنظفها أنه مجنون لا عقل له ولا تمييز، والسخرية تنهال عليه من كل جانب لأنه الإنسان الشاذ الذي يقول ما لا يصح أن يقال والذي يفعل ما تواطأ الناس على ألا يفعلوه. . . وهذه الصورة هي أيضاً نفسها صورة الأديب الفنان الصادق الحس السليم المنطق الصادق التعبير الواضح القصد، فهو نفسه المجذوب وهو نفسه المسحوب من لسانه الذي يقول للمجتمع مهما اغتر المجتمع: إنك يا أيها المجتمع مغرور ومخطئ، والذي يقول للسلطان مهما قوي