أظهر ما توحي به الهجرة إلى النفس، ما كان عند الرسول صلى الله عليه وسلم وعند أصحابه الأخيار من قوة العزيمة ورسوخ الإيمان، قوة ورسوخاً تغلباً على جميع ما لاقوه من شدائد ومصاعب
فقد احتمل الرسول ألوان الكيد وصنوف المشقات من أعدائه بعزيمة لا تعرف الكلل ولا التواني ولا الخنوع. وتحمل المسلمون الأولون معه مثل ذلك بعزائم مقتبسة من عزيمته، حتى كان الواحد منهم يمشط بأمشاط الحديد فلا يصرفه ذاك عن قصده ولا يلويه عن عقيدته. تحملوا هذا الضيم وهم أباته في سبيل نشر الدعوة التي تفتحت لها قلوبهم فاعتنقوها وأخلصوا إليها. وما زالت المتاعب وضروب الإيذاء تغالب عزائمهم تبتغي وهنها والحد من نشاطها، حتى صرعتها هذه العزائم في جلد وصبر واستهزاء، فإذا دين الله ينتشر عزيزاً في بقاع المعمورة، وعلمه يرفرف على أمم وممالك لم تكن للعرب بها صلة قبل ذلك. ثم كانت تلك الفتوحات العظيمة أثراً من آثار رسوخ عقيدة الأولين وإيمانهم بفكرتهم وتفانيهم في الدفاع عنها والعمل على نفوذ سلطانها
إن الحوادث التاريخية منذ القديم إلى اليوم تدل دلالة واضحة أنه على قدر إيمان الدعاة والأتباع بفكرتهم ويقينهم بها يكون عملهم لرفعتها ونجاحهم في نشرها وتحقيق سيادتها. كذلك نشاهد أن الأمم الحديثة التي تؤمن بفكرة اقتصادية واجتماعية وتعتقدها وتفنى فيها تحاول جاهدة بسطها على الناس بالدعاية والإقناع تارة، وبالسيف والنار أخرى. وما التطاحن الحالي إلا مظهر من مظاهر ذلك
على هذا النحو كان المسلمون الأولون في إيمانهم بفكرتهم وعملهم لها. وليس من شك أن للإيمان بالفكرة والانسياب في كل ما ينهض بها وجعلها الشغل الشاغل لصاحبها أثراً جليلاً في قبول دعوتها وتوجه الناس إليها وتفكيرهم في أمرها
إن الشعوب الأجنبية تنظر إلى الإسلام في أشخاص أصحابه وأعمالهم وأوصافهم، وقديماً كانت الأفراد والشعوب تنظر إلى المبادئ والفكر في تصرفات أصحابها وأحوالهم. وما زلنا نحن نحكم على الأحزاب والجماعات هذا الحكم؛ لأن ذلك أول مظهر ينجلي فيه الإخلاص