وقف ربيئة الروم فوق أعلى حصن (بابليون) بجوار مدينة مصر العظيمة، فنظر إلى ما دونه نحو الأهرام عابراً ببصره نهر النيل العظيم فذهب به الخيال إلى الماضي البعيد، وهمت بنفسه سورة خفيفة من الشجن المبهم، وكان الجو كله ممتلئاً بالأشجان والمخاوف لما كانت الدولة تلقاه من جميع الأنحاء من الغارات والأخطار ثم، نظر إلى الشمال نحو مدينة الشمس العظيمة (أون) حاضرة العلوم القديمة ومركز ثقافة الفراعنة، غير أنها لم تكن عند ذلك إلا بقية ضئيلة من نفسها القديمة. ثم نظر إلى الكروم والبساتين التي تكتنف الحصن من شماله حتى تصله بمدينة (أون) فلاح له من بينها غبار ثائر وجرم متحرك. وما زال يحدق في ذلك الغبار وقلبه مضطرب وعقله تساوره الذكريات، والمخاوف تتوارد عليه سراعاً. ثم صاح صيحة النذير فاجتمع حوله جنود الحصن الذين كانوا على مقربة منه يشتركون معه في النظر إلى ذلك الغبار الثائر وما لاح تحته من أجرام متلاحقة متحركة نحو شاطئ نهر النيل. وكان الجنود إلى ذلك الوقت لا يعرفون شيئاً سوى ما يذيعه لهم قوادهم وأمراؤهم، فجعلوا يذهبون مع الخيال مذاهب شتى، فقائل منهم تلك جنود من الفرس عادت لتنتقم من الهزيمة الطاحنة التي لحقت بدولتها على يد هرقل ملك الروم العظيم، وقائل أن تلك قبائل البجة التي اعتادت العيث في جنوب البلاد قد بلغت شمال الوادي لتهبط على ريفه فتسلب منه ما شاءت ثم تعود مسرعة قبل أن يستطيع الروم أن يجمعوا الجيوش للإيقاع بها، ثم قال قائل منهم ممن عركتهم الحروب (أين الفرس اليوم؟ لقد صارت دولتهم في يد جيوش عرب الصحراء كما صارت بلاد الشام. ولقد رأيت بنفسي جيش العرب يأخذ دمشق ويطرد الروم من مروج سوريا، وليس من شك في أن هذا الغبار قد أثارته حوافر خيولهم السريعة).
وأتى عند هذه اللحظة قواد الروم عندما بلغهم الصخب واللغط فنظروا حيث نظر الجنود، ثم نظر بعضهم إلى بعض نظرات صامتة في وجوه مصفرة ثم قال (جورج) كبيرهم للجنود: (هلم أيها الجنود إلى أماكنكم فليس من المباح لكم أن تقفوا إلى جوار الربيئة تشغلونه عن حراسته) فانصرف الجنود طائعين وقلوبهم غير راضية وعقولهم غير