تبوأ أبو عبد الله عرش غرناطة للمرة الثانية بعد أن قضى في أسر ملك قشتالة زهاء ثلاثة أعوام. وكانت الخطوب والفتن التي توالت على مملكة غرناطة قد مزقتها حسبما بينا، فلم يبق منها بيد الإسلام سوى بضع مدن وقواعد متناثرة مختلفة الرأي والكلمة ينضوي بعضها تحت لواء أبي عبد الله والبعض الآخر تحت لواء عمه محمد بن علي (الزغل). وكان واضحاً أن مصير غرناطة يهتز في يد القدر بعد أن نفذت جيوش النصرانية إلى قلبها، واستولت على كثير من قواعدها وحصونها الداخلية، ولم يكن الملك الصغير (أبو عبد الله) طبق المعاهدة التي عقدها مع فرديناند سوى تابع لمملكة قشتالة. يدين لها بالخضوع والطاعة، وكان ملك قشتالة يحرص من جهة أخرى على المضي في تحقيق خطته لسحق البقية الباقية من دولة الإسلام في الأندلس قبل أن يعود إليها اتحاد الكلمة، فيبعث إليها روحاً جديداً من العزم والمقاومة، فبدأ بغزو القواعد الشرقية والجنوبية التي يسيطر عليها مولاي الزغل لأنه كان في صلح مع غرناطة يمتد إلى عامين، وقد أراد أن يسبغ على عهوده مسحة غادرة من الوفاء، ولأنه أراد أولاً أن يعزل غرناطة، وأن يطوقها من كل صوب. وزحف فرديناند بادئ بدء على مالقة امنع ثغور الأندلس وعقد صلتها بالمغرب، وطوقها بقوات كثيفة من البر والبحر وسقطت مالقة رغم دفاعها المجيد في شعبان سنة ٨٩٢هـ (أغسطس ١٤٨٧م). ثم استولى فرديناند على المنكب والمرية (أواخر سنة ٨٩٤هـ ١٤٨٩م) ثم على بسطة (المحرم ٨٩٥هـ ديسمبر ١٤٨٩) ثم قصد إلى وادي آش آخر معقل لمولاي الزغل، ورأى الزغل رغم شجاعته وبسالته انه يغالب المستحيل وان جيوش النصرانية تحيط به من كل صوب، فانتهى إلى الاذعان والتسليم، ودخل فرديناند وآدي آش في صفر سنة ٨٩٥هـ (يناير ١٤٩٠م) واتفق بادئ بدء أن يستمر (الزغل) في حكم قواعده باسم ملك قشتالة وتحت حمايته، وان يلقب بملك اندرش، وأن يمنح دخلاً سنوياً كبيراً، ولكنه لم يلبث أن رأى انه يستحيل عليه الاستمرار في ذلك الوضع الشاذ، فباع حقوقه لفرديناند مقابل مبلغ كبير، وجاز البحر إلى المغرب واستقر في تلمسان يقضي بها بقية حياته في غمر من الحسرات والعدم، وجاز معه كثيرون من الكبراء