الذين أيقنوا أن نهاية الإسلام بالأندلس قد غدت قضاء محتوما.
ثم جاء دور غرناطة آخر معقل للإسلام بالأندلس، وكانت جميع قواعد الأندلس الأخرى: مالقة والمرية ووادي آش والحامة وبسطة فد غدت نهائياً من أملاك مملكة قشتالة وعين لها حكام من النصارى، وتدجن أهلها أو غدوا مدجنين يدينون بطاعة ملك النصارى، وذاعت بها الدعوة النصرانية فارتد كثير من المسلمين عن دينهم حرصاً على أوطانهم ومصالحهم، وخشية الريب والمطاردة؛ وجازت ألوف أخرى ممن خشوا على أنفسهم ودينهم إلى المغرب وتفرقوا في ثغوره، وهرعت ألوف أخرى إلى غرناطة تلوذ بها حتى غدت المدينة تموج بسكانها الجدد. وكان سلطان غرناطة أبو عبد الله يرقب هذه الحوادث جزعاً ويشعر أنها تسير إلى نتيجة محتومة هي سقوط غرناطة في يد العدو الظافر، وكان قد تخلص بانسحاب عمه الزغل من الميدان من منافسه القوي، ولكنه فقد في نفس الوقت أقوى عضد يمكن الاعتماد عليه في الدفاع والمقاومة، وسرعان ما بدت طوالع الخطر الداهم، وبعث فرديناند إلى أبي عبد الله يطلب إليه تسليم الحمراء والبقاء في غرناطة في طاعته وتحت حمايته مثلما وقع لعمه الزغل؛ فثار أبو عبد الله لذلك الغدر، وأدرك - وربما لأول مرة - فداحة خطأه في محالفة الملك الغادر؛ وجمع الكبراء والقادة، فاجمعوا على الرفض والدفاع حتى الموت عن وطنهم ودينهم؛ ودوت غرناطة صيحة الحرب؛ وحمل أبو عبد الله بعزم شعبه على القتال والجهاد، وخرج في قواته نحاول استرداد القواعد والحصون المسلمة المجاورة؛ وثار أهل البشرات وما حولها على النصارى؛ ووقعت بين المسلمين والنصارى عدة مواقع ثبت فيها المسلمون، واستردوا كثيراً من الحصون والقرى في تلك المنطقة (أواخر سنة ٨٩٥هـ)، وعاد أبو عبد الله إلى غرناطة ظافرا، وانتعشت قلوب الغرناطيين نوعاً بذلك النصر الخلب، وأخذوا يتأهبون للدفاع بعزم. وغضب فرديناند لتلك المفاجأة التي لم يكن يتوقعها واعتزم أن يقوم بضربته الحاسمة في الحال؛ فخرج في ربيع العام التالي (٨٩٦هـ) في جيش ضخم مزود بالمدافع والذخائر الوفيرة؛ وسار تواً إلى غرناطة ونزل بمرجها الجنوبي وأنشأ لجيشه في بلك البقعة مدينة صغيرة مشهورة سميت سانتافي (شنتفي) أو الإيمان المقدس رمزاً للحرب الدينية، وهي تقوم حتى اليوم وبدأ حصار غرناطة في جمادى الآخرة سنة ٨٩٦هـ (مارس ١٤٩١م).