كانت ليلة ميتة لا يتردد في صدرها نفس من نسيم، ولا تبدو فيها حركة من حياة، عمياء لا تبصر فيها عين من نجم يسطع في السماء، أو مصباح يزهر على الأرض، وقد أوى كل حي في (سمرقند) إلى مضجعه، ونامت المدينة تحت أثقال من الصمت والظلام، ولم يبق متيقظا فيها إلا هذا الرجل الذي خرج من داره، يخوض لجة الليل مارا إلى غايته، ولا يقف ولا يلتفت حتى بلغ قصر الإمارة فألقى عليه نظرة، لو كانت نظرة تحرق لأحرقه الشرر المتطاير منها، ثم أوسع الخطو، وأسرع كأنه يريد أن يجنب نفسه مرأى هذا القصر، وأن يسابق الزمن إلى هدفه الذي يرمي إليه. . . .
وفارق المدينة واحتواه الغاب، وطنت في أذنيه أصوات هوامه وحشراته، وكان الغاب موحشا غارقا في ظلمتين، ظلمته وظلمة الليل. . . ولكن الرجل لم ينتبه إلى وحشته وظلامه، وقد كان له من ضخامة المطلب الذي يسعى إليه وعظم الخطر الذي يقدم عليه، شاغل عن التفكير في ثقل هذه الليلة، وانفراده في الغاب، والخوف من أن تنشق هذه الظلمة المتراكبة حوله عما يؤذي ويروع. . . حتى إذا بلغ الصخرة التي تقوم عند باب المعبد وقف وأحجم، وخالطته هيبة شديدة، ووقر على صدره شئ لم يجد مثله في الغاب الموحش، ولم يكن غلاما تفزعه الأشباح، ولا كان الجبان الرعديد، ولكن ما وضعوه في نفسه وهو صغير من أسرار المعبد وعجائبه، جعله يشب ويكتهل ولا يزال أمامه مثل الطفل الصغير وكان فارس البلد غير مدافع، وبطل المعارك المكفهرة، ولكن المعبد غير الميدان، ولئن واجه في الميدان رجالا مثله، ففي المعبد قوى لا يراها، وخفايا لا تصنع معها شجاعته شيئا. . . ولم يدخله قط، إنما يدخل المعبد هؤلاء النفر من الشيوخ الذين مارسوا من أنواع العبادة والرياضيات ما يجعلهم أهلا لدخوله، ثم لا يخرجون منه أبدا، ولا يجوز لهم أن يعودوا فيروا نور الشمس ولا زهر الروض، وكان يشعر بأن لهؤلاء الكهنة مهابة في قلبه ومحبة، ويحس بالخوف منهم وهو الذي يواجه الأبطال الصناديد، ويقدم على الموت الأكيد غير خائف ولا وجل. وطال وقوفه عند الصخرة وهو يتهيب أن يقرعها