فرغ أبو يحيى مالكُ بنُ دينار، زاهدُ البَصْرة وعالمها، من كتابة المُصْحَف؛ وكان يكتبُ المصاحف للناس ويعيشُ مما يأخذ من أجرة كتابته، تعففاً أن يَطْعَم إلا كَسْب يده، ثم خرج داره وَجْهُهُ المسجدُ، فأتاه فصلى بالناس صلاة العصر، وجلسوا ينتظرونه، واستوى هو قائماً، فركع وسجد ما شاء الله حتى قضى نافِلَتَه، ثم انْفَتَلَ من صلاته فقام إلى اسطوانته التي يستند إليها، وتحلق الناسُ حوله جموعاً خلْف جموعٍ، يذهب فيهم البصر مرة هنا ومرة هنا من كثرتهم وامتدادهم، حتى تغطى بهم المسجدُ على رحبة. ومد الإمام عينه فيهم ثم أطرق إطراقهً طويلة، والناسُ كأن عليهم الطير مَما سكنوا لهيبته، ومما عَجبوا لخشوعه؛ ثم رفع الشيخ رأسه وقد تندت عيناه، فما نظر إليهم حتى كأنما اطلع على أرواحهم فجرٌ رطْبٌ من سِحْر ذلك الندى
وبَدَرَ شابٌ حدَثٌ فسأله: ما بكاءُ الشيخ؟ وكان قريباً يجلس من الإمام في سَمْتِ بصره، فتأمله الشيخ طويلاً يقلب فيه الطرْفَ كالمتعجب، ولبث لا يجيبه كأنما عَقِدَ لسانهُ أو أخذته عن نفسه حالٌ، فما يثبتُ شيئاً مما يرى
وازداد الناس عجباً؛ فما جَرّبوا على الشيخ من قبلها حصراً ولا عِيا، ولا قطعه سؤالٌ قَط، ولا تخلف قطُّ عن جواب؛ وقالوا إن له لشأنا وما بُدٌ أن تكون من وراء حُبْسَته شعابٌ في نفسه تهدر بسيلها وتعتلج، فما أسرع ما يلتقي السيلُ، فيجتمعُ، فيصوبُ إلى مجراه، فيتقاذف
وتبسم الإمام وقال: أما إني قد ذكرتُ ذكرى فبكيتُ لها، ورأيتُ رؤيا فتبسمتُ لها؛ أما الذكرى، فهل تعملون أن هذا المسجد الذي يفهق بهذا الحشْد العظيم، وتقع فيه الدينية المدينة لكل أّذَانٍ وتطير - هل تعلمون أنه خلا قط من الناس وقد وَجَبَت الفريضة؟ قالوا: ما نَعْلمه. قال: فقد كان ذلك لعشرين سنةً خَلَتْ، في مَوْت الحسن، فقد مات عَشيةَ الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره، وحملناه بعد صلاة الجمعة، فتبع أهلُ البصرة كلهم جنازته واشتغلوا به، فلم تُقم صلاةُ العصر بهذا المسجد، وما تُركتْ منذ كان الإسلام إلا يومئذ؛ ومثل الحسن لا تموت ساعةُ موته من عُمرْ من شَهدَها، فذلك يومٌ عجيب قد لف