(سلمني طالب في طريقي كتاباً باسمي ففضضته فإذا هم يطلبون مني أن أجيب كتابة على هذا السؤال: ما هي السبل التي ترونها ناجعة فيتجه إليها الطلاب ليكونوا الجيل الجديد: عماد البلاد الحقيقي؟ وقد آثرت نشره هنا في مجلة العرب تعميما للفائدة، وسلكت في الإجابة طريق التبسيط والمثل، متجافياً عن القواعد والنظريات، وكل ما يحول دون فهم الطلاب لها الفهم الجيد)
أراد أحد كبار المحدثين أن يختصر الطريق على طالب يتخرّج عليه في الحديث، فحفَّظه مدة عشر سنين أربعمائة ألف حديث بأسانيدها. فلما أتقن الطالب الحفظ وودع أستاذه قبل سفره إلى أهله، لم ينس هذا الأستاذ أن يخبره: أن هذه الأحاديث أربعمائة الألف كلها موضوعة لا تصح. فأسقط في يد الطالب وقال:(أضعتَ يا سيدي عمري في حفظ ما لا يصح. أساغ في ذمتك إهدار عشر سنين هن أنضر العمر؟). فابتسم الأستاذ، وهدَّأ من حزن تلميذه قائلاً:(لم يضع شيء، الآن يا بني أبصرت الطريق، وصرت آمناً عليك كل تدليس، مطمئناً إلى دخولك غمار هذا المجتمع الزاخر بالوضع والكذب والتلفيق، ولن تعجزك بعد هذا معرفة الصحيح)
أعجبتني طريقة هذا المحدث، ووضحت لي حكمة الأصوليين القائلين:(درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة). والخير في أن نحكم الوسائل السلبية لكل أمر قبل العناية بوسائله الإيجابية، وأن نعني بدفع الضار أضعاف ما نعني بجلب النافع. فهل من حرج علي إذاً، إن أنا عدلت عن بيان ما يجب لبناء الجيل الجديد إلى بيان أسباب إخفاقنا نحن أبناء الجيل الحاضر فلعل أول النجاح لأبناء المستقبل أن يتوُّقوا ما ارتطم فيه مَن قبلهم
تسألون - أيها الطلاب - عن السبل الناجعة في تكوين الجيل الجديد؛ ألا فاعلموا أنها سبيل واحدة فقط، خطوتها الأولى أن تتجنبوا ما تورطنا فيه نحن أبناء الجيل الحاضر، من عبودية لكل تقليد ضار في أخلاقنا وعاداتنا ونظمنا وتعليمنا. ولقد كان من أعظم الأسباب في إخفاقنا أمور ثلاثة: خلق منحل تستره دعاوٍ عريضة من الكمال والفضيلة والوطنية؛