كتب الأستاذ باش أعيان مقالاً قيماً في الدفاع عن العباسة بنت المهدي، ولقد أثار مقاله هذا في نفسي فكرة كانت ما تزال تردد بها، وكنت ما أزال أفكر في الكتابة عنها حتى قرأت هذا المقال، فوجدت الفرصة قد دعتني إلى الكتابة. فالأستاذ باش أعيان نقل إلينا مجملاً من أقوال المؤرخين عن سبب نكبة البرامكة، ونقل إلينا أيضاً مجملاً من آرائهم في مسألة زواج جعفر من العباسة، وهناك أمران في هذا الشأن لابد من تقريرهما.
فإن المؤرخين قد أجمعوا على اختلاف في أسباب نكبة البرامكة والاختلاف بينهم دليل قاطع على الجهل بحقيقة نكبة البرامكة، والذي نستطيع أن نخلص به من هذا الاختلاف هو أن نكبة البرامكة التي حدثت إنما هي الحركة الظاهرة مما كان يعتمل في نفس الرشيد. . . فكل حركة تحدث من الإنسان كبيرة كانت أو صغيرة تشتمل في الواقع على عاملين: العامل الظاهر وهو الذي يظهر إلى النور، ويكون الواقعة، والعامل النفسي وهو المختفي في أغوار النفس لا يظهر. ولقد أراح الأستاذ باش أعيان نفسه وأراحنا حينما ذكر لنا ذلك الحديث بين الرشيد وأخته علية وهو يقول لها إن قميصه الذي يرتديه لم علم السبب في قتل جعفر لمزقه.
فليكن جعفر إذاً أخا الرشيد في الرضاعة، وليكن رفيقه في الملعب، وليكن صديقه في الشباب، وليكن وزيره في الملك. ليكن أيا من هذه الصفات، أو ليكن جميعها؛ إنما الواقع من الأمر أنه قتله. . . لماذا قتله. .؟! لا يستطيع أحد أن يعرف، بل إنني لأشك كثيراً فيما إذا كان الرشيد نفسه يعرف. . فلكم تخادع نفسها نفسه، ولعل الرشيد أوجد سبباً في نفسه يطمئنها به إليَّ عدله إن هو قتل جعفر. . لعله أوجد هذا السبب في ظاهر نفسه، بينما أوغل السبب الحقيقي في الاستخفاء بين أطواء النفس بعيداً عن كل مظنة. . بعيداً عن تفكير الرشيد ذاته، فلو أن الله جل وعلا بعث الحياة اليوم في الرشيد، ونفض عنه غبار القبر والسنين، واستطعنا نحن أن نسأله السبب فقاله. . لو حدث هذا فإننا نستطيع على رغم كل ما حدث أن نتشكك فيما يقول. وإن هذا الاختلاف بين المؤرخين أمر عجيب في ذاته، فإن أسبابهم جميعاً لا تعارض بينها، فإذا وجد واحد منهم، فهو لا يمنع وجود الأسباب