خفت إليّ مع الصباح، وحيتني بتحيته، وعليها من الثياب سواد، فرددت عليها التحية في تلطف ورعاية ورفق، وجلست صامتة واجمة خائرة النفس منهوكة القوى شاردة الفكر. ثم أخذت تجيل النظر في المكان الذي احتوانا، وأخذتُ أختلس النظر إليها فإذا هي تنظر إلى الأرض، ثم ترفع البصر إلى السماء ثم تتجه إلي بنظرة وادعة حزينة، وفي هذه النظرات الثلاث تعبير صادق عما يختلج في نفسها من المعاني: من تفكير عميق فيما نزل بها من بأساء، إلى توسل إلى الله بالصبر والرضا للقضاء، إلى رجاء فيمن تزور ليدفع عنها بعض هذا البلاء.
ثم قالت:(إني أعلم ما كان بينك وبين زوجي رحمه الله من صداقة ووفاء وإخلاص؛ ولقد ذكر لي فيما كان يذكر من شأنه أنك كنت مثابةً له في الرأي، وعوناً في التدبير، ونصيراً في الشدة، أليس كذلك؟).
قلت:(نعم كنا كذلك، وكنت أجد فيه ما تذكرين لي. رحمه الله، وطيب ثراه).
قالت: (ما أفزعني إليك اليوم وفي هذا الصباح الباكر إلا ما يحز في قلبي حزاً، ويعصر فؤادي عصراً، مما أجد من همي وهم الناس: فأما همي فهو الذي تعرفه والذي إن أخفاه لساني أعلنته ثيابي، وأما هم الناس وما أحمل منه، فذلك فيما أرى فيهم من قلة الوفاء، وخراب الذمم، وتحجر الأكباد، وضيعة الأخلاق: فلقد كنت أسمع من والدي ووالدتي - رحمهما الله - أن الناس في العهد الغابر كان الواحد منهم ينطق بالكلمة فإذا هي بينه وبين صاحبه عهد لا ينقض، وميثاق لا يحل، وإلُّ لا ينكث به؛ أما اليوم فما أرى الناس إلا عن ذلك صادفين: يقول الواحد منهم ما يقول، وبعد بما يعد: فلا يقام لقوله وزن، ولا يحسب لوعده حساب، ما لم يسجل قوله ووعده في كتاب، بل لقد ينكرون ما خطت أيديهم في الكتب، ولو شهد عليهم شهود، ولهم في ذلك طرائق وحيل. هذا زوجي - رحمه الله - قد أقرض فلاناً مائة جنيه، ولست أدري إن كان قد كتب بها صكاً أم استوثق زوجي من صدق وفائه بلسانه، وقد ألحت عليّ الحاجة والوفاء لهذه البنت اليتيمة فطالبت الذي عليه الحقُّ بالحقّ: فمطلني، ثم ألححت، فردني، ثم رجوته فصدف عني، ثم توسلت إليه فنهرني، وما