تجاوز فهيم عبد الجواد الخامسة والأربعين ولا يزال عزباً. فكم من مرة نصحته أمه في شبابه أن يدخر عندها كل يوم خمسة قروش فلا تمضي أربع سنوات أو خمس إلا وتكون قد جمعت له مهر العروس. . . لكنه كان يقابل رأيها هذا بابتسامة ساخرة ويقول لها: حسن، هاك نصف جنيه عن عشرة أيام! فينساها، وتنسى أمه مسألة الادخار إلى أن تثار الحكاية من جديد، فتنصحه ويدفع، فينسى فتنسى، وهكذا ظل فهيم دون زواج.
فكان مكبوت العاطفة، رقيق الشعور نزقا في بعض الأحيان. وفي عصر أحد الأيام، بينما كان يحاول إغلاق مكتبه الذي يتعاطى فيه أعمال تأجير البيوت، جاءته فتاة أجنبية، وسألته عن غرفة مفروشة أو غير مفروشة، لكنها رجته وألحت في السؤال فوعدها خيراً. . . ولما علم منها في سياق الحديث إنها جاءت المدينة ذلك اليوم، وإنها وحيدة لا أهل لها ولا معيل، أحب إن يمثل معها دور العاطف عليها، فحدثها عن مصاعب الحياة، والحرب وذيولها، وغلاء المعيشة، وأزمة المساكن، وكانت الفتاة توافقه تارة وتخالفه تارة أخرى، وفي نهاية الأمر دعاها إلى تناول العشاء معه، فترددت، فأغراها بمآكل المدينة الشرقية القديمة وبالتفرج على بيوتها وفرشها، فترددت ثانية، لكنها استعرضت في مخيلتها صوراً خيالية براقة فرأت في هذه الدعوة ما يكشف لها أسراراً طالما طالعتها في الروايات والقصص، فأومأت إليه برأسها موافقة، وذهبا سوية إلى مسكنه في دير الأرز الواقع في وسط المدينة القديمة.
كانت الساعة وقتئذ تقارب الثامن مساء، وقد أنتشر الظلام في حارات المدينة وأزقتها، ولم ينرها سوى قناديل زيتية تكاد لا تعكس ضوءها إلا على نفسها فقط!، وكانت الفتاة تسير إلى جانب فهيم أفندي وتتعثر، فيعينها بوضع راحته تحت رسغها برفق، وإذا ما تراءى له أنها ستقع، تأبط ذراعها، فتشكره بكلمات غير واضحة متقطعة. ولما اقتربا من الدير قال لها: حذار من إحداث ضجة أثناء دخولنا الدير. سيري على أطراف قدميك قالت: وهل من شيء تخشاه؟ إنني ضيفتك، ومن يجرؤ ويمانع في زيارتي لك؟. . .