في حديقة النباتات بباريس، وأمام متحفها، يجلس تمثال بوفون بادياً على محياه وقار العلماء، وهدوء الباحثين، وسكينة النفس، واطمئنان الضمير، ولقد أحسن الفرنسيون في اختيار هذا المكان لتمثاله، فقد وقف الشطر الأكبر من حياته على دراسة ما في الطبيعة من حيوان ونبات.
ولد بوفون في السابع من سبتمبر سنة ١٧٠٧ في مونتبار القريبة من بيجون، وقضى تعليمه العالي بكلية بيجون، ولم يكن متميزاً فيها إلا بميله إلى الرياضيات. وظل بيفون إلى الثانية والثلاثين من عمره غير مهتد إلى السبيل التي هيأته الطبيعة لها، ولم يقم بما يدل على أنه سيكون في قابل حياته العالم العبقري والكاتب الممتاز، وفي تلك المرحلة قام برحلة مع أحد الأمراء إلى إيطاليا ولندن، وألقى بحثاً في المجمع العلمي نال به لقب العضو المساعد، وترجم عن الإنكليزية بعض الكتب العلمية. وإذا كانت المصادفة تقود خطى بعض الناس، وتكشف لهم عما يكمن في أنفسهم من المواهب؛ فإن الصدفة قد لعبت دوراً كبيراً في حياة بيفون، وحددت له الطريق الذي يجب أن يوجه إليه جهده، فقد عين مديراً لحدائق الملك، وكلفه الوزير أن يضع وصفاً منهجياً لما بالمقصورة الملكية من مجموعات النباتات، ومنذ ذلك الحين وجد بيفون طريقه، وخصص نفسه لدراسة التاريخ الطبيعي.
كان حينئذ في الثانية والثلاثين من عمره، وقضى المدة الباقية له في الحياة، وقدرها تسعة وأربعون عاماً، بين باريس التي كان يفر منها كلما استطاع ذلك وبين بلدته مونتبار؛ وهناك كان ينهض من نومه الساعة الخامسة، ويحبس نفسه بمكتبه يملي إلى التاسعة، ويفطر في نصف ساعة يعود بعدها إلى العمل حتى الساعة الثانية إذ يتغدى. وهكذا كان يقضي كل يوم إلى نهاية حياته سنة ١٧٨٨ قدر بيفون أن يخرج كتابه: التاريخ الطبيعي العام والخاص في خمسة عشر مجلداً، ولكنه لم يمت إلا بعد أن صار ستة وثلاثين مجلداً، ولقد أحرز ما ظهر من هذا الكتاب في حياته شهرة واسعة، وأقبل عليه القارئون في شوق