خففت إلى القرية منذ بضعة ايام، وقد أغراني الصحو والدفء أن أنعم بهما هناك يوماً أو يومين في ملاعب صباي ومسارح هواي وجنة أحلامي؛ ورحت في رونق الضحى أثب كالفراشة من حقل إلى حقل ومن غدير إلى غدير، وفي قلبي فرحة الغلام، وفي خيالي أحلام الشاعر.
وجلست أستريح ساعة في مصلى على جانب الطريق، أستند إلى جذع شجرة التوت العتيقة التي جردتها يد الشتاء العاتية من أوراقها، والتي طالما استروحت نسيم الأصل الرخي في ظلها السابغ أثناء الصيف؛ وأخذت عيناي من بعد شخصاً قادماً في زي (الأفندية)، فلما صار بحيث أتبيه، رأيته في زي (الجند) وما لبث أن دنا مني فعرفته، ولما بلغ حيث أجلس نطق بالسلام متبسماً ورفع يده إلى رأسه محيياً بالتحية التي تعلمها في الميدان. . . وعجب إذ نهضت واقفاً له وإذ مددت إليه يدي مصافحاً، وأشرت إليه فجلس على استحياء على حافة المصلى.
هذا هو حسن الفتى القروي المرح، القسيم المحيا الذي تعرفه القرية كلها بمواويله الساحرة العذبة التي كان يمليها عليه في الأفراح ما هز قلبه حب عف شديد والتي ما لحق به في مضمارها أحد من منافسيه. . ولقد طالما رأيته بالأمس يخطر في ملابسه القروية في تلك البقاع، ولقد طالما سمعته من قريب أو من بعيد يبدأ أغانيه الحلوة بقوله:(آه. . . يا ما جرى لك قلبي)
واليوم أراه في حلته العسكرية ينتعل ذلك الحذاء الضخم ويضع على رأسه الطربوش ويمسك بيده عصا رفيعة من الخيزران، وقد زال عن وجهه سفع الشمس إلا قليلاً فبدا أكثر وضاءة وأجمل قسامة وأنضر عافية.
ولمحت في عينيه شيئاً من القلق ولكن لم يغب عني سببه، فأنا أعرف أن ذلك المصلى مكان انتظاره لمن يهوى قلبه وهي قافلة من الترعة أو ذاهبة إليها؛ وأشرت إلى ذلك مداعباً ممازحاً فضحك ضحكة جميلة مازج الطلاقة فيها الخجل. . . ولكن إشارتي إلى ما في نفسه زادت قلقه، فوجم برهة، وأدركت انه يهم بالانصراف فأخذت أهدئ بالحديث روعه.