سلخت سنين في دراسة السدة عائشة كنت فيها حيال معجزة لا القلم إلى وصفها سبيلاً. وأخص ما يبهر فيها: علم زاخر كالبحر بعد غور، وتلاطم أمواج، وسعة آفاق، واختلاف ألوان. فما شئت إذ ذاك من تمكن في فقه أو حديث أو تفسير أو علم بشريعة أو آداب أو شعر أو أخبار أو أنساب أو مفاخر أو طب أو تاريخ. . . فإنك واجد منه ما يروعك عند هذه السيدة، ولن تقضي عجباً من اضطلاعها بكل أولئك وهي لا تتجاوز الثامنة عشرة
ولست بسبيل بيان ذلك الآن، وإنما أخبرك أني وقعت وأنا أنقب في كنوز المكتبة الظاهرية بدمشق على مجموعة خطية في آخرها رسالة نفيسة للإِمام بدر الدين الزركشي الشافعي المصري قصرها على موضوع واحد هو: استدراكات السيدة عائشة على الصحابة
من خصائص المرء ذي الطبيعة العلمية أن يكون طُلَعة كثير السؤال، لا يهدأ له بال حتى يرضى طمأنينته ويجلو لنفسه كل خفي مما يحيط به. وكانت السيدة عائشة بهذه الصفة، ساعدها على بلوغ ما بلغت من المعرفة أنها ربيت في حجر أبي بكر الصديق أعلم الناس بأنساب العرب وأخبار قبائلها وميزات بطونها، فحازت من ذلك علماً كثيراً. ثم انتقلت إلى بيت الرسول ومهبط الوحي فكانت أقرب الناس من معين العلم، فغرفت منه ما لم يتيسر لأحد غيرها لمكانها منه كزوجة، ولما تفردت به من ذكاء نادر وفكر واسع. وكلما عظم حظ الإنسان من المعرفة كثر تطلعه إلى ما فوقه. أما الجاهل فليس بمعنىّ أن يبحث أو أن يسأل، فإذا أصاب من المعرفة حظاً بطريق العرض كان أبعد الناس عن أن تطلب نفسه مزيداً أو تثير له شكوكاً تحدثه بسؤال يسأله وقد أوردت السيدة على الرسول من الأسئلة في كل ما مّر بها من موضوعات: في الفقه والقرآن والأخبار والمغيبات وأمور الآخرة، وفيما يعرض له من أحداث وخطوب، وما يفد عليه من وفود
وبعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم، كان علم عائشة قد بلغ ذروة الإحاطة والنضج في كل ما اتصل بالدين من قرآن وحديث وتفسير وفقه. . .
ومع حمل الأصحاب إلى الأمصار طائفة صالحة من الأحاديث والأحكام حتى كانوا ثمة