أشرف سافاري على القاهرة بعد رحلة ممتعة في النيل، فلم ترقه العاصمة ولم تبهره مناظرها كما بهرته مناظر السكندرية؛ ذلك أن القاهرة التي كانت خلال العصور الوسطى أعظم مدن الإسلام، انتهت في أواخر القرن الثاني عشر إلى مدينة متواضعة تحيط بها التلال والخرائب ويصف لنا سافاري خطط العاصمة المصرية يومئذ، وضيق شوارعها وأزقتها؛ ولكن القاهرة كانت مع ذلك تلفت النظر بمساجدها الثلاثمائة وقلعتها التاريخية المنيفة، ويقدم إلينا سافاري عن القلعة وعن أبنيتها وسكانها صورة شائقة، فيقول لنا إنها فقدت مناعتها القديمة منذ اخترع الديناميت، وان لها مدخلين تحرسهما ثلة من الانكشارية وستة مدافع مصوبة نحو مسكن (الباشا) ذلك أن الانكشارية يمالئون البيكوات المصريين، والبيكوات هم الذين يملون إرادتهم على الباشا، وفي داخل القلعة قصر سلاطين مصر السالفين، قد غلب عليه العفاء والخراب، ولكن بقيت منه عدة أعمدة فخمة وجدران زاهية؛ وفي أحد أبهائه المهجورة تصنع الكسوة النبوية التي يحملها أمير الحج كل عام. ويسكن الباشا بناء كبيراً يطل على (قره ميدان)، ويعقد الباشا الديوان ثلاث مرات في الأسبوع في غرفة الديوان الشاسعة، وقد خضبتها دماء البكوات المصريين الذين فتك بهم الباب العالي قبل ذلك بأعوام قلائل. أما اليوم فهم سادة مصر، وليس لمثل السلطان أية سلطة فعلية، وإنما هو أداة في أيديهم يحركونه طبق أهوائهم، بل هو سجين في القلعة لا يستطيع أن يغادرها دون إذنهم. أما الانكشارية فيسكنون في قصر صلاح الدين وقد بقيت منه أطلال تدل على عظمته السابقة، وأربعون عموداً من الجرانيت الأحمر؛ وإلى جانبه توجد منظرة عالية تشرف على القاهرة، يرى منها منظر المدينة الرائع بميادينها ومآذنها وحدائقها وهنا لا يتمالك سافاري نفسه من أن يصيح:(أن المطل من هذه المنظرة لتأخذه نشوة من التأملات اللذيذة) ولكن يغشاه في الحال كآبة، فيقول لنفسه: (أن هذه البلاد الفنية التي كانت عصوراً ملاذ العلوم والآداب والفنون يحتلها اليوم شعب جاهل بربري يسومها سوء الخسف؛ أجل إن الطغيان ليسحق بنيره الحديدي أجمل بلاد العالم؛ والظاهر أن شقاء