للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من وراء المنظار]

أيام في القرية

لن أجد إذا أردت التعبير عن مبلغ حبي لقريتي كلاماً أجمل ولا أصدق

من كلام أستاذنا صاحب (الرسالة). ولست أزيد عليه سوى أني أعيش

في القرية أبداً إذا جئتها كواحد من فلاحيها؛ فأنا أخالط هؤلاء

الفلاحين، وأتكلم بلهجتهم، وأؤدي ما أريد من المعاني بألفاظهم،

وأضرب في الحديث أمثالهم، وأنهج في سوق الكلام نهجهم، لا أتكلف

ولا أتعسف؛ إذ لا حاجة بي إلى ذلك، وأنا قروي قبل كل شيء، ومثلي

إذا عدت إلى قريتي كمثل النبات، تنقله إلى بيئته، فيبدو لك من

خصائصه ما لا يبدو إلا في تلك البيئة. . .

هبطت القرية وبيني وبين العيد يومان، وتركت منظاري لينظر من ورائه صاحب (الرسالة)، فيستعيذ بالله آخر الأمر منه، ويسألني في ختام حديثه البارع الممتع: أيرسله إلي أم يجرّبه على عين الأستاذ المبارك. . . وما درى أن لي في القرية غير ذلك المنظار الذي لا ينفذ فيها إلى مثل ما ينفذ إليه في المدينة، ونسى أن للمبارك عيناً لا تحب المنظار، لأنها تنفذ وهي عارية إلى كل شيء ولو كان بينها وبينه أكثف ستار!

درت بمنظاري هذا فوقع من حياة (القرية) ومجاليها على ما لو طاوعت قلمي في سرده، لضاق عنه عشرة أمثال هذا المجال. وحسبي أن أقصر الكلام على ما كان أعمق أثراً في نفسي بين ما شاهدت. . .

شاعت الخضرة في الحقول، ورف في مزارعه بين بطاح البرسيم نوّار الفول، واهتزت الأرض أخيراً وزخرت بالحياة، بعد أن فعلت بها دودة البرسيم أياماً طويلة ما لا يفعل الجراد، فالتهمت جموعها الخفية العنيدة، البراعم الطرية الوليدة، وتركت الناس حيارى لا يجدون لما أصابهم من علة، إلا أنه غضب من الله. . . وأبهجت نفسي مظاهر الحياة والبشر في النبات الرفيف والشمس الصاحية؛ بيد أني وا أسفاه رأيت إلى جانبها، مظاهر

<<  <  ج:
ص:  >  >>