للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٣ - دفاع عن البلاغة]

حد البلاغة

تسألني بعد ذلك عن البلاغة التي أعنيها وأدفع عنها: أهي بلاغة العقل العربي التي تجلت في نثر ابن المقفع والجاحظ والبديع، وارتسمت في منهج أبي هلال وعبد القاهر؛ أم هي بلاغة العقل اليوناني التي تمثلت في كلام الأصوليين والجدليين والمناطقة، واستسرت في قواعد السكاكي والسعد؟ أهي بلاغة المعنى أم بلاغة اللفظ؟ أهي بلاغة الفكر أم بلاغة الأسلوب؟

والجواب أن البلاغة التي أعنيها وأدفع عنها هي البلاغة التي تحدى بها القرآن أمراء القول في عهد كان الأدب فيه صورة الحياة وترجمة الشعور وعبارة العقل. هي البلاغة التي لا تفصل بين العقل والذوق، ولا بين الفكرة والكلمة، ولا بين الموضوع والشكل؛ إذ الكلام كائن حي، روحه المعنى وجسمه اللفظ، فإذا فصلت بينهما أصبح الروح نفساً لا يتمثل، والجسم جماداً لا يحس

ومن العجيب أن كان في أمم البلاغة الثلاث: اليونان والرومان والعرب، من فصلوا بين القلب واللسان، وفرقوا بين المنطق والفن. ففي اليونان - وهي الأمة التي نشأت البلاغة في حضانة الفلسفة، وجعلت الشعر والخطابة قسمين من أقسام المنطق - كان للبلاغة مذهبان: مذهب الفلاسفة؛ ومن رجاله بركليس وديمستين؛ ومذهب البيانيين؛ ومن رجاله السوفسطائيون والمتشدقون من أمثال طراسيماك وجرجياس.

وفي العرب كان مذهب المعنويين ومذهب اللفظيين، أو مذهب أهل العراق، ومذهب أهل الشام. وكان هذان المذهبان أول الأمر يتماسان من شدة القرب كما تراهما بين أسلوب الجاحظ وأسلوب ابن العميد. فلما فسدت الطباع وأمحلت القرائح صار بينهما من البعد ما بين براعة ابن خلدون وغثاثة القاضي الفاضل

ولقد اختلفت التعريفات على مدلول البلاغة باختلاف تصور الناس لها وتأثرهم بها وغرضهم منها، ولكنها تعريفات مقتضبة لا تكاد تكشف عن جوهرها الفني لا من جهة النظر ولا من جهة العمل. ولعل أول من حاول شرح البلاغة على نحو يشبه الفن ابن المقفع إذ قال: (البلاغة اسم لمعان تجري في وجوه كثيرة: منها ما يكون في السكوت،

<<  <  ج:
ص:  >  >>