كان أبو الطيب المتنبي (٣٥٤هـ) يرسل قصائده الفرائد فتسري في أرجاء العالم العربي مسرى الأضواء، حاملة بين اطوائها بذور نقدها، فتملأ الدنيا بدويها، وتشغل الناس بحديثها، فمنهم من يكبرها ويغلو في إعظامها والإعجاب بها، حتى يملك عليه الإعجاب أقطار نفسه، ويأخذ بمسارب حسه؛ ومنهم من يحقرها، ويغض من شأنها، ويسرف في ثلبها، حتى ليكاد يخرجها من حلبة الشعر، ويسل صاحبها من بين الشعراء؛ وبين أولئك وهؤلاء أقوام قد تفارتت حظوظهم من المودة والبغضاء، والإعجاب والإزراء، فيكثرون من الحديث عنها والجدل فيها كما قال المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويغتصم
ولعل أهم مسألة شغلت النقاد، واستأثرت بنشاط أفكارهم مسألة سرقات المتنبي، فقد كان الرجل واسع الثقافة، دائب الإطلاع على أشعار الشعراء، يجيل النظر فيها، ويعمل العقل، ويدير الفكر بنفس مشوقة وحس جميع، فكان إذا جاشت نفسه بالقريض ربما ألم بهذا المعنى أو ذاك، وطاف بهذه الفكرة أو تلك شاعراً بما صنع أو غير شاعر، وقد اهتبل النقاد مسألة السرقات هذه، وحاول بعضهم أن يصدم بها المتنبي في مجالس الإنشاد، وأتخذها الحساد غرضاً يصوبون إليه سهامهم المسمومة لعلهم ينالون من عظمته، ويديلون من ذكره، فيشفوا بذلك نفوسهم، ويذهبوا غيض قلوبهم. وكان أول من عرض لها وكتب فيها الصاحب ابن عباد وأبو علي الحاتمي (٣٨٨). ولما ألف الجرجاني (٣٦٦هـ) كتاب (الوساطة) أدار الحديث فيه عن هذه السرقات، وأفاض حتى أنفق فيها أكثر صحائف الكتاب. وجاء معاصره ابن وكيع المصري فألف كتاب (المنصف في الدلالات على سرقات المتنبي) وابن وكيع هذا (شاعر بارع، وعالم جامع، قد برع على أهل زمانه، فلم يتقدمه أحد في أوانه، وله كل بديعه تسحر الأوهام، وتستعبد الإفهام) وله ديوان شعر جيد ولد في مدينة تنيس بالقرب من دمياط، ومات بها في جمادي الأولى سنة ٣٩٣، وقد ضاع ديوان شعره، ولم يبق من كتاب المنصف إلا نسخه واحدة فيما يقول برو كلمان، محفوظة في مكتبة برلين