بينا في مقالنا السابق أن التشريعات القديمة كانت تميل تارة إلى جانب التشديد في العقوبة وتارة أخرى إلى جانب التراخي فيها - واستشهدنا ببعض أقوال من الإنجيل والتوراة نفهم منها أن الأول يطلب العفو من ولي الدم وفيه تفريط في حق المجني عليه، وإفراط في أمر الجاني إلى أن نزل القرآن فسلك الإسلام الطريق الوسطى بين جانبي الإفراط والتفريط في المعاملات والعقائد والعبادات - قال الله تعالى (وكذلك جعلناك أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس)
كما أصبح للدين الإسلامي أسس موضوعة جنبت عقوبة القتل في جميع أحوالها جانبي الإسراف والتقصير - وهذه الأسس أربعة.
القصاص:
فرض الإسلام بهذا المبدأ عقوبة القتل جزاء لجريمة القتل وأباح به دم الجاني - وفي ذلك نزلت آيات القصاص، وقد ذكرنا بعضها في موضوع سابق. ومعنى هذا أن الإسلام لا يجيز التراخي في شأن الجاني ولا يسمح بوقوع هذه الجريمة دون أن يقتص من فاعلها بالقتل - فسد بذلك نقصاً ملحوظاً في شريعة الإنجيل على فهم كثير من الناس.
حق القصاص والعفو لولي الدم:
وكما أن ديننا حد من جانب التفريط كما دعا إليه الإنجيل - كذلك خفف من إفراط التوراة بشأن المجني عليه ولم يحتم عقوبة القتل لهذه الجريمة فخير ولي الدم بين القصاص والعفو وزين له الأخير قال تعالى:(فمن عفا وأصلح فأجره على الله) وقال بعض الفقهاء (العفو أفضل من الصلح والصلح أفضل من القصاص)
وهنا لم يقل الإسلام بالقصاص دون رحمة ولا شفقة بل شرعه مع خبار العفو وإجازة الصلح وأباح أن يكون العفو ببدل أو بغير بدل كما حبب الإسلام العفو إلى النفوس، وبذلك اتخذ طريقاً وسطاً فتحاشى قسوة التوراة التي تحتم القصاص وتراخي الإنجيل الذي يحتم العفو.