قال المسيْبُ بنُ رافع: وكان الإمام قد شَغَل خاطرَه بهذه القصة فأخذت تمدُّ مدّها في نفسه، ومكَّنت له من معانيها بمقدار ما مكن لها من هَمه، وتفتَّق بها ذهنُه عن أساليبَ عجيبةٍ يتهيأ بعضُها من بعضٍ كما يلدُ المعنى المعنى. فلما قال الرجُلان مَقالها آنفاً وأجابهما بتلك الحكمة والموعظةِ الحسنة، انْقدَح له من كلامهما وكلامِه رأي فقال:
يأهلَ الكوفة: أنشُدكم اللهَ والإسلام، أيُّما رجلٍ منكم ضاق بروحه يوماً فأراد إزهاقَها إلا كشف لأهل المجلس نفسه وصَدَقَنا عن أمره؛ ولا يَجِدَنَّ في ذلك ثَلباً ولا عاباً، فإنما النكبةُ مذهبٌ من مذاهب القَدَر في التعليم؛ وقد يكونُ ابتداء المصيبة في رجلِ هو ابتداءَ الحكمة فيه لنفسه أو لغيره؛ وما من حزينٍ إلا وهو يشعر في بعض ساعات حزنه أنه قد غُيِّبت فيه أسرارٌ لم تكن فيهن وهذا من إبانة الحقيقة عن نفسها وموضعها كما لألأ في سيفٍ بَريقُه
وعقلُ الهمِّ عقلٌ عظيم، فلو قد أُريدَ استخراجُ علمٍ يَعلمُهُ الناسُ - من اللذات والنِّعم، لكان من شرح هذا العلم في الحمير والبغال والدواب ما لا يكون مثله ولا قرابة في العقلاء، ولا تَبلغهً القُوى الآدميةُ في أهلها؛ بَيد أنه لو أُريد علمٌ من البؤس والألم والحاجة لما وُجد شرحُهُ إلا في الناس ثم لا يكون الخاصُّ منه إلا في الخاصة منهم
وما بَانَ أهلُ النعمةِ ولا غَمَروا المساكينَ في تَطاولهم بأعناقهم إلا من أنهم يَعُلون أكتافَ الشياطين؛ فالشيطانُ دابّة الغنيّ الذي يجهلُ الحقِّ عليه في غناه ويحسبُ نفسه مُخَلى لشهواته ونعيمه؛ كما هو دابةُ العالِم الذي يجهل الحق عليه في غناه ويحسب نفسه مخلي لشهواته ونعيمه؛ كما هو دابة العالم الذي يجهل الحق عليه في علمه، ويزعمُ نفسه مخلى لعقله أو رأيه، وما طال الطويل بذلك ولا عن ذلك قصُر القصير، وهل يصحُّ في الرأي أن يقال هذا أطولُ من هذا لان الأول فوق السُّلم والآخر فوق رجليه. . . .
قال المسيَّب: فقام شيخٌ من أقصى المجلس وأقبل يتخطَّى الرقابَ والناسُ يَنفرجون له حتى وقف بازاء الإمام؛ وتَفرّستُه وجعلتْ عيني تَعجمُهُ، فإذا شيخ تبدو طَلاقَةُ وجهه شباباً على وجهه، أبلجُ الغُرًّة مُتهَللٌ عليه بشاشة الإيمان، وفي أساريره أثرٌ من تقطيب قديم، ينطق هذا وذاك أن الرجلَ فيما أتى عليه من الدهر قد كان أطفأ المصباحَ الذي في قلبه مرةً ثم