للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[إنه جهاد لا سياسة!]

للأستاذ محمود محمد شاكر

عجبتُ أشدَّ العجب حين قرأت في الأسابيع الماضية خبر وَساطة سورية ولبنان وغيرهما من بلاد العرب والتي أرادوا بها اجتلابَ التفاهم بين بريطانيا ومصر والسودان. ومعنى ذلك أن البلادَ التي دفعتها الغيرة والصداقة والقُربَى إلى هذه الوساطة، تَعْني أو تظنُّ أو تؤمِّل أن تكون المفاوضة بيننا وبين بريطانيا خيراً من الارتفاع إلى مجلس الأمن أو الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، ليقضي بيننا فيما اختلفنا فيه!

وللعجب من مِثْل هذا الفِعْل وجوهٌ كثيرةٌ. فمن ذلك أننا ظللنَا نفاوض هذه الدولة المتغطرسة سنين طوالا مغرّرِين بالمفاوضة، فما أجدتْ علينا إلا ألواناً من البلاء، وعلمتنا ضروباً من كَذِب الألسنة واحتيالها وخداعها، وعرفنا أن بريطانيا تراوغ ما استطاعت المراوغة، وتتجنَّى ما أطاقت التجنِّي، ولا نكسبُ نحنُ من ذلك شيئا إلا الفرقَة والتدابُر والتنابُذ والتشاتُم، وهي كلُّها من مبيدات الأمم. نعم، وكانت العبْرة التي لا عِبْرة بعدها أن القوم الذي ظلُّوا أكثر من خمسة وعشرين عاماُ يُصرُّون على أن المفاوضة هي خير طريق لاستنقاذ حقوقنا من الأيدي الغاصبة، هم هُم القوم الذين عرفوا أن لا جدْوى من المفاوضة، فقطوعها وآثروا أن يرفعوا الأمر إلى هيئة دولية تحكُمُ بيننا، هذا فضلا عن أن صريح الرأي، وصريح الدلالة، وصريح التجربة، تُوحي جميعاً بأن بريطانيا لم تستفد قطُّ من شيء في هذا الشرق المبتلى بها ما استفادت من مبدأ المفاوضة. فهو الذي أتاح لها في مصر مثلا أن تُطفئَ جمرة الشعب المصري التي ظلَّت تتوهَّج فيما بعد سنة ١٩١٩، حتى صدق فيها قول المتنبي:

وكم ذا بمصر من المضحكاتِ ... ولكنه ضحكٌ كالبُكىَ

فمن هذه المضحكات المبكية، ما كان من تغرير المفاوضين الذين جاءوا بمعاهدة ١٩٣٦، والذين استطاعوا أن يصبُّوا في آذان الشعب من الكلام الفاتن حتى احتفل بها احتفاله المذكور على أنها (معاهدة الشرف والاستقلال)!! ومن ذلك أن ترى شعباً قد أوذي وامتُهِن وحقّر على يدِ فئة من طُغاة العسكريين فإذا هو يحمل ممثل هذا العشب بعدَ قليل على الأعناق! ونحنُ لا نذكر هذا رغبة في ذكره، ولكن الذين توسَّطوا ينبغي لهم أن يعرفوا هذه

<<  <  ج:
ص:  >  >>