الفظائع التي أورثتنا إياها مبادئ المفاوضة وما يتبعُها.
ومن أساس العجب أيضاً أن سورية ولبنان تعلم حق العلم، وتعلم بالتجربة التي جربتها مع الفرنسيين، أن المفاوضة لا تجدي، وأنها لم تنل حقَّها إلا حين كانت يداً واحدةً تطالب بحقها المغصوب، فلم تقبل معاهدة ولا شروطاً ولا وعوداً تعد بها فرنسا، وأصرت على ذلك إصرارَ الكِرامِ القادرين، فإذا فرنسا تجلو بجيوشها جميعاً عن كل بقعةٍ من بقاعها، وكل مكتب من مكاتبها. فالذين يعرفون هذا في أنفسِهم، إذا هم أتوا خلافه أو أرادوا غيرهم على إتيان خلافه، إنما يزيدون العجبَ عجباً ولا ريبَ.
أما العجبُ العاجبُ فهو أن هذه الدول التي بذلت وساطتها نسيتْ موقف بريطانيا في مسالة السودان كل النسيان، وغفلت عن السرّ الذي دفع بها إلى إيثار التشدّد على المساهلة، والصراحة على المواربة. وذلك أنها لا تريدُ أن تفصِل السودان عن مصر مُكايدةً لها أو انتقاماً منها، بل لأنها لا تريدُ الجلاءَ عن مصر كل الجلاءِ، وهي تعلم أن السودان هو مصر، فبقاؤها فيه هو بقاؤها في مصر سواءً بسواء. ولكن بريطانيا لا تريدُ أن تفضح نفسَها بالإصرار على البقاء في أرض مصر، فاخترعت قصة الدفاع عن مصير السودان واستقلاله أو تهيئته للحكم الذاتي وأنه لا بُدَّ لذلك من أن تبقى فيه حتى يتهيَّأ ويستعدّ، وأن تمنع مصر الباغية من العدوان على السودان!! وهذا كله تدْليسٌ بيّنٌ، وكنا نرجو أن يعرف المتوسِّطون حقيقة هذه المسألة على وجهها فيكفُّوا عن الوساطة التي تعود بنا إلى المفاوضة - أي إلى تعذيب الشعب المصري السوداني سنين أُخَر، وإلى بقاءِ العالم كله جاهلا بعدالة قضية مصر والسودان على وجهها الصحيح.
وأما أعجبُ العجبِ فهو أنهم نسوا ما تُلاقي فلسطين على يد البريطانيين اليوم، من إرخائها الحبْل لنذالة الإرهاب اليهودي ومعاونتها في هجرة اليهود بأساليبها الخدَّاعة، واحتمالها في ذلك الأمر ما لم تكن تحتملُ قليلا أو كثيراً من مثله حين ثارتِ العربُ على ظلمها وبغيها وعدوانها هي وأشياعها من يهود. وهل ننسى، نحن العرب، لم وعدت بريطانيا شّذَّاذَ اليهود. الذين ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، بأن ينشئوا في فلسطين وطناً قوميَاً، ثم معاونتهم لهم في ذلك، ثم إغضاءها عن جشع اليهود بعد ذلك وطلبهم إنشاء (دولة يهودية) تقوم في قلبِ الأوطان العربية التي تحيط بها من كل ناحية؟