للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إن الوساطة لا تكون حقاً إلا حين تتوسَّط بين شريفين كريمين يُحْسِنان تقدير الوساطة. فما الذي رأته سورية ولبنان وسواهما من الشرف والكرَم في تاريخ بريطانيا في بلادِ العرب حتى تركب هذا المركب الوعر؟

الجواب: لا شيء، بل النقيض هو الصحيح.

وأنا لا أكتب هذا عتاباً ولا ملامة، فأنا لا أشك في أنهم جميعاً إنما أرادوا الخير، وظنُّوا الخير، وعملوا للخير، ولكن غير ذلك كان أولى وأدلَّ على فهم الحقائق.

لقد وضعت الحربُ العالمية الأولى (١٩١٤ - ١٩١٨) فإذا الشعوب (العربية) فِرَق مقطُّعة بين الدولتين الباغيتين فرنسا وبريطانيا، وكان رأي العرب مفرّقاً ضائعاً في فوضى الاضطراب الذي أعقب الحرب، ومع ذلك فقد قامت الثورات في كل مكان مطالبة بالحقوق الواضحة التي لا جدال في وضوحها، فأنكرتها علينا بريطانيا وفرنسا، ولكنا مع ذلك ثرنا وبقينا نثور في كل مكان.

ثم جاءتنا الحرب العالمية الثانية، فإذا رأى العرب مجتمع غير مفرق كما كان بعد الحرب الماضية، وبدأنا نثور فإذا الثورات عد خمدت بعد قليل، وإذا نحن نوشك أن نتفرق بعد اجتماع. ولعل هذا رأي غريب مع ما نرى من قيام الجامعة العربية، ومن تصريحات في مناسبات كثيرة بأنها تؤيد مطالب مصر أو مطالب غيرها من الأمم العربية بالإجماع. بيد أن السبب الذي من أجله أخشى تفرق الكلمة هو ما رأيت من أمثال هذه الوساطات التي ترد كلها إلى سبب واحد، هو أن الرأي العربي لم يدرس القضايا دراسة مستوعبة، ولم يتخذ لنفسه خطة بينة واضحة في كل قضية. وأظنه لو فعل ذلك لنفى من قلبه خاطر هذه الوساطات بين أقوام العرب، وبين الدول المتغطرسة التي لا أمانة لها، ولا هدف لها إلا استعباد هذا الشرق بأساليب (مطابقة لمقتضى الحال).

وإنه لأولى بنا جميعاً، نحن العرب، أن نصارح بالعداء كل أمة من أمم الطغيان الاستعماري، وأن نحذر كل الحذر مزالق السياسة وأساليبها الخداعة، فإننا أمم مجاهدة، وينبغي أن تظل مجاهدة حتى تنال حقها في كل مكان، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. والمجاهد مقاتل، لا صاحب سياسة ومواربة ومداراة، فإن ضرر هذه الثلاثة على الشعوب المجاهدة أكبر من أن نغفل عنه أو نتهاون فيه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>