أحس إذ أتناول هذا الموضوع أني بين عاملين: عامل الحياء وعامل الفخر. أما الحياء فأول دواعيه أن أعقب أنا الصغير على مقال أستاذنا العلاّمة أحمد أمين. وأما الفخر فحسبي أن يقرأ لي الأستاذ سطوراً قد تحظى برضاه في موضوع كهذا يعنيه.
يرى الأستاذ (أن الشاعر المجيد هو الذي يثير العواطف بقدر، ويبنيها على أساس عميق) ويرى أن الأدب في العصر العباسي كان أدباً ضعيفاً. إن أنت حصرته وجدته بين باك ومادح ومستهتر، ثم يرى أن عود الأديب الشرقي على نحو عود المغني الشرقي أشجى أغانيه أحزنها، وخير نغماته أبكاها.
وعلى ذلك يسمي الأستاذ ذلك النوع من الأدب الباكي الذي يتعمق في إثارة العواطف أدباً مائعاً، وذلك الأدب الذي لا يثيرها إلاّ بقدر أدباً قوياً، فهل يسمح لي الأستاذ أن أتجرأ فأقلب هذا الوضع، فأسمّي ذلك الأدب الوجداني الحاد الذي يبالغ في إثارة العواطف أدباً قوياً، وذلك الأدب الذي لا يمت إلى العاطفة بصلة قوية أدباً جافاً أو مائعاً؟
أرى الأنغام الوجدانية الحادة أساس الأدب الحاد، ولن يكون الأدب الحاد مائعاً، وأرى العبارات الخالية مما يثير العواطف أو التي تثيرها بقدر أساس التفكير العقلي، والخطوة الأولى نحو الفلسفة (القوية) ولن تكون الفلسفة القوية أدبا قويا، وعلا ذلك فما يسميه الأستاذ أدبا مائعا هو في الواقع أدب قوي، وأما ما يسميه أدبا قويا فهو فلسفة قوية.
والأدب والفلسفة شيئان: فالأدب لغة القلب، والفلسفة لغة العقل، والإنسان إنما يبدأ بقلبه فيفرح أو يبكي ويحب أو يبغض ويرضى أو يغضب ويأمل أو ييأس ويثور أو يهدأ حسب ما يحس من عواطف، فإن كان لابد من تخفيف حماسته، فليكن ذلك بشيء من حدة عقله، ولكني لا أرى تجريده من ذلك الحماس ولا أحسب ذلك ممكنا، إذ ما القلب بغير حماس؟ ثم ما الأدب بغير عاطفة؟
وإذا اشتدت العاطفة فكيف يكون الأدب مائعاً، وكيف تشتد العاطفة إلاّ إذا اشتدت بواعثها؟ وإذا ما اشتدت بواعثها فما القوة إن لم تكن القوة في إظهارها قوية رائعة؟
إن الإنسان بطبعه عسوف عنوف، لا يسكن إلاّ لعجز، ولا يرتدع إلاّ من خوف، ولا يعفو