للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إلاّ عن ضعف ولا يقنع إلاّ مضطراً، ولو أطلق له العنان لكان شره مستطيرا ومكره خطيرا بيد أنه على غلظته لا يخلو قلبه من عواطف نبيلة، ولكنها خامدة، وميول خيّرة ولكنها كامنة، ولذلك فهي في حاجة إلى الإبانة والتنبيه، والأدب الوجداني الحاد يخاطب القلوب فيهزها ويستثير ما كمن فيها من نبل فيبعثه، ولذلك كان هو عماد المصلحين ودعاة الإنسانية، فإنك إن تخاطب الإنسان في منطق وفي عبارات جافة فقلّما يصغي إليك، وإن استمع فقليلا ما يعي، وإن أنت بدأت بقلبه فهززته في رفق وألنته بأنغام قيثارتك ثم أهبت به فقد يهوي إليك.

تحدّث شكسبير عن تأثير الموسيقى في النفوس فبدأ بالعجماوات فقال ما بال تلك الوحوش الكاسرة تسمع أناشيد الموسيقى فتقع متراخية وتظهر كأنها مأخوذة حائرة؟ وما بال ذلك العدد المضطرب من الخيل الجانحة يسمع الموسيقى فيهدأ فجأة ويسير في نظام كأنما تذهب الأنغام ثائرته وتسحره عن نفسه.

والأدب الوجداني موسيقى النفس، وموقفه من القلوب البشرية الفطنة موقف الموسيقى الحسية من تلك الخلائق الهائمة الثائرة، فهو الذي ينفذ إلى القلب ويختلط بالنفس فيلائم بين ذراتها وينظم تموجاتها. ويقلل من عنف الإنسان وجبروته فيجعله رقيقا وادعاً.

ولا تثريب على الشاعر، أو القصصي، أن يبكي فيبكي عيوناً تكاد أن تتحجر، ويفتح آذاناً ضربت عليها المطامع المادية ويهز قلوباً كانت لا تحفل دعاء أو تجيب رجاء.

وهو إن بكى على نفسه فغير ملوم، فإنما ينطق بما يحس، وبذلك ينفس عن قلبه، وقد تخفق قلوب معه وتهوي أفئدة إليه، وها هو ذا البارودي الفارس يقول:

أفي الحق أن تبكي الحمائم شجوها ... ويبلي فلا يبكي على نفسه حرّ؟

وماذا عليهم إن ترنّم شاعر ... بقافية لا عيب فيها ولا نكر؟

وهو في بكائه غير ضعيف، بل إن حدة عواطفه لتنهض دليلا على قوته، وإلاّ فما أضعف جيته ولامرتين وهوجو وأبا فراس والمعرّي وغيرهم ممن ضربوا على أوتار حزينة باكية!

ولقد بكى هؤلاء في شبابهم أعني في أيام قوتهم وبكوا لقوة إحساسهم ونبالة قصدهم وكمال إنسانيتهم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>