قد يكون مع بعض الفقر عزاء ورجاء وسكينة؛ ولكن فقر هذا الغني البائس الذي سأقص عليك نبأه ألمٌ لا يهاون، وهمٌّ لا يهادن، وحمَّى لا تُقلع
سأسوق إليك خبر هذا المسكين بقلمي لا بقلمه، فإن الرسالة التي كتبها إليّ كلماتٌ كحسرات النادم لا تتصل، ومقاطع كأنّات المحتضَر لا تبين. على أنني سأحاول ترجمتها لك ترجمة الشعور للشعور، لا ترجمة اللفظ للفظ، لترى كيف يشقى المرء بخطأ نفسه، أكثر مما يشقى بخطأ غيره
قال بعد أن سلم وعظم وشكر:
(قرأت وأنا في وحدتي السامة وعلتي القاتلة ما كتبتَ من مآسي الحياة في الرسالة، فراعني أن يبلغ البؤس ببعض النفوس إلى هذا الحد، وفي أرض الله رزق لا ينضب، وفي يد الناس مال لا ينفد!
ولا أكذِبُ الله لم أفطن إلى معنى الحرمان والإحسان إلا بعد أن نيفت على الستين وأقعدني الكُساح، وسلبني حريتي وثروتي وغبطتي من جعلت حياتي له، ووضعت أملي فيه
أنا أملك ربع مليون من حر المال وخالص الذهب. وكان يخيل إليّ قبل أن ينكشف الغطاء عن العين أني أسبح في بحر أحمر لا أدري أكانت حمرته من الذهب أو من الدم أو من الدمع، فإني كنت مصمت القلب لا يختلج فيه شعور ولا ترف عليه عاطفة. فلما بلغت الشاطئ لأستجم وجدتني على ساحل الحياة، هنا الموت الراصد، وهنا المرض المثْبِت، وهنا الضمير المعذب، وهنا الوارث الحاقد الذي دفنني وأنا أشعر، وورثني وأنا أنظر، وحرمني وأنا أريد. فإذا كان في بؤس الفقراء ما يستدرُّ ماء العيون، فإن في ذل الأغنياء ما يذيب شِغاف الأفئدة!
أتدري كيف جمعت هذا المال يا سيدي؟ جمعته بالسعي الدائب، والتدبير المعجز، والربا الفاحش، والشح الدنيء، والتقتير المهلك؛ ثم أمات الله في نفسي نوازع الأبوة والقرابة والإنسانية فلم تبضّ يدي في سبيل شيء من ذلك، فنما المال واتسع وامتد حتى صرفني عن الناس وشغلني عن العالم. ثم حسبتني بهذا الثراء الضخم أستطيع أن أشتري السعادة