للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[صورة من الحياة العلمية في مصر]

٢ - تقي الدين السبكي

بقلم محمد طه الحاجري

وفي أثناء هذه الولاية ولد له تقي الدين، وفي هذا البيت الكريم الذي ترفرف عليه روح العلم والورع نشأ نشأة مباركة بين أبيه وعمه الشيخ صدر الدين أحد أفاضل العلماء، يرعيانه ويتوليان أمره. وينشئانه أحسن تنشأة وأكرمها؛ فقد رأيا فيه ملامح النجابة والذكاء والإقبال على العلم والجلد عليه، والانصراف عن اللهو ولذائذ الحياة، ما جعلهما يتنوران من خلاله أنه سيكون إماماً من أئمة العلم ورجلاً من رجال الخلق والفضل. فقد حكى عنه أبنه تاج الدين (أنه كان يخرج من البيت صلاة الصبح فيشتغل على المشايخ إلى أن يعود قريب الظهر، فيجد أهل البيت قد عملوا له فروجا، فيأكل؛ ويعود إلى الاشتغال إلى المغرب؛ فيأكل شيئاً حلوا لطيفاً، ثم يشتغل بالليل؛ وهكذا لا يعرف غير ذلك. . . . . وكأن الله قد أقام والده ووالدته للقيام بأمره، فلا يعرف شيئاً من حال نفسه.)

لقد كانت طفولة عجيبة، تلك الطفولة الجادة العاملة الوقور المنصرفة عن اللهو واللعب ومنازع الصبيان، ولقد عجب أبوه نفسه مرة من هذه الظاهرة، ورأى في انصراف ابنه عن عبث الأطفال، والنيل من لذائذ الطعام أمر لا يتفق مع سنه الصغير فأشار على أمه أن تعطيه درهما أو درهمين عله أن يرى في السوق شيئا يشتهيه فيشتريه، فعقدت له أمه منديلا على نصف درهم، وهو يروح به ويغدو، إلى أن ضاق بحمله، فألقاه إلى أمه، وقال لها ما شأني بهذا، وما أصنع به؟. . .

وإن هذه الأحاديث التي يرويها تاج الدين عن أبيه جديرة بأن تكون صحيحة، وهي ترسم لنا صورة لتقي الدين الطفل، تتسق كل الاتساق مع صورة تقي الدين الرجل الكهل؛ فكأنما كان ثمة روح من عند الله أخذت توجهه منذ مولده إلى غايته المقدورة، وترسم له السبيل إليها، وتحوطه أن ينحرف عنها. ولسنا نشك في أنه ثمرة كريمة مباركة لكل الظروف التي قدمنا ذكرها

وكان الأب ما يفتأ يذهب إلى مصر ليلقي بها قاضي القضاة فكان يستصحب معه ابنه ليزيره معاهد العلم، ويشهده ربوع الفضل، فمرة يزور به مدرسة الحديث الكاملية ويدخل

<<  <  ج:
ص:  >  >>