ينبغي لمن أراد أن يدرك سر عظمة النبي أن يتخيل رجلاً وحيداً فقيراً تمكنت من قلبه عقيدة فنظر حوله فإذا الناس كلهم في جانب، وإذا هو بمفرده في جانب. هو وحده الذي يدين بدين جديد، بينما الدنيا كلها: أهله وعشيرته، وبلده وأمته، والفرس والروم والهند والصين وكل شعوب الأرض لا يرون ما يرى، ولا يشعرون له بوجود. هذا موقف النبي، وهذا موقف العالم: رجل عاطل من كل قوة وسلاح، إلا مضاء العزيمة وصلابة الإيمان، أمام عالم تدعمه قوة العدد والعدة، وتؤازره حرارة عقيدة قديمة شب عليها وورثها عن أسلافه، واتخذت لها في قرارة نفسه وأعماق تاريخه جذوراً ليس من السهل اقتلاعها على أول قادم. فالنبي هو ذلك القادم الذي يريد أن يقتلع تلك الجذور ويضع مكانها غرساً جديداً. والعالم القديم هو ذلك السادن القوي لتلك الشجرة العتيدة، يذود عنها وتأبى كرامته أن يفرط في ورقة منها. إنها إذن (مبارزة) بين فرد أعزل، وبين عصر بأسره يزمجر غضباً: عصر زاخر بأسلحته ورجاله، وعقائده وفقهائه، وعلمائه ومشاهيره، وتقاليده وماضيه، ومجده وتاريخه. . . هذه المبارزة الهائلة العجيبة من يستطيع أن يقدم عليها غير النبي. . . على أن المعجزة بعد ذلك ليست في مجرد التحدي ورمي (القفاز) وارتفاع ذلك الصوت الضعيف على شاطئ ذلك البحر الطامي العجاج: (أن اترك أيها العالم دينك القديم واتبعني). ذلك الصوت الذي لا جواب عليه إلا سخرية طويلة وقهقهة عريضة. . . وليست المعجزة كذلك في مجرد شفاء الأصم وإبراء الأعمى، إنما المعجزة حقيقة هي أن يخرج مثل هذا الرجل الوحيد الأعزل من هذه المعركة المخيفة ظافراً منتصراً؛ فإذا هذا العالم العتيد كله يجثو عند قدميه منكس الأسلحة، وقد انقلبت سخريته خشوعاً طويلاً، وقهقهته صلاة عميقة كيف ربح هذا الرجل الموقعة؟ ما وسائله؟ هل كانت له خطط وأساليب وقوة من شخصه مكنته من النصر؟ أو أن الله هو الذي نصره دون أن يكون لشخصية النبي دخل في الانتصار؟ عقيدتي دائماً أن شخصية النبي لها أثر كبير
وهنا معنى الاصطفاء، فالله يختار من بين البشر عظيماً له كاهل يحتمل عبء الرسالة، ويوحي إليه بالعقيدة ثم يتركه يجاهد في سبيلها. فالنبي ليس آلة تحركها يد الله في كل