خطوة؛ إنما هو رسول عهد إليه تبليغ دين والعمل على إذاعته بين الناس بالوسائل التي يراها الرسول كفيلة ببلوغ الغاية. فالله لا يريد نشر الأديان بين البشر إلا بالوسائل البشرية. فهو لا يتدخل بقدرته العلوية فيفرض الدين فرضاً على الناس كما تفرض عليهم الزوابع والأمطار؛ ولكنه يحب دائماً أن يخلي بين (الدين) وبين (الناس) حتى يتغلغل الدين من تلقاء نفسه في نفوسهم بجمال نوره وحده؛ ولكن أعين الناس لا ترى في كل الأحيان؛ فهم يعيشون في أعماق ماضيهم كالأسماك العمياء في أغوار المحيطات. هنا تبدأ متاعب النبي؛ وهنا تبدو عظمته؛ وهنا تظهر المعجزة الحقيقية وهي إبراء الأعمى، لا أعمى واحد ولكن ملايين العميان. فهو الذي يفتح أبصارهم على نور طالما جحدوا وجوده: نور الدين الجديد الذي أتى به. وهنا ينبغي التساؤل: كيف استطاع النبي أن يُري الناس ما يَرى، وأن يقنعهم بما جاء به؟. الجواب بسيط: حياة النبي وخلقه. إن الناس لا تقتنع بالكلام وحده. إنما يؤثر فيها الفعل والمثل. إن الناس يوم أيقنوا أن محمداً لا يسعى إلى غنى ولا إلى مُلك؛ وأنه يريد أن يبقى فقيراً يشبع يوماً ويجوع أياماً، وأن كل تلك المخاطر التي يتعرض لها في كل خطوة، وأن كل ذلك الهوان الذي يناله من سفهاء القوم وأكابرهم. . . وأن كل ذلك الجهاد الذي ملأ به حياته بأكملها إنما هو في سبيل (العقيدة) التي يقول لهم عنها؛ منذ ذلك اليوم الذي اجتمع فيه كبراء أمته وعرضوا عليه ثروتهم ووعدوه أن ينصبوه عليهم ملكاً على شرط أن يتركهم على دين آبائهم، فرفض المال والمجد والسلطان، وأبى إلا شيئاً واحداً صغيراً:(أن يؤمنوا معه بفكرته)؛ عند ذاك أدرك أولئك القوم جميعاً أن الأمر جد لا هزل؛ وأنهم أمام رجل لا ككل الرجال؛ وأن الآدمي الذي لا يغريه في الحياة شيء، ولا يعيش إلا من أجل فكرة، لابد أن يكون قد أبصر في هذه الفكرة جمالاً لم يبصروه هم. (فكرة) لا تقوَّم بمتاع من أمتعة هذه الدنيا الرخيصة، و (جمال) يضحي في سبيله خير ما في الحياة. أمام هذا الرجل أخذ الناس يفكرون ملياً. وثبت لمن كان قد ارتاب في أمره أن مثله لا يمكن على الأقل أن يكون أفاقاً يعمل لمغنم. إنما هو رجل صادق مخلص، لا مطمع له من تلك المطامع التي يسعى إليها الناس في هذه الدار. عند ذاك بدأ كثير من الناس يجلسون إليه ويصغون إلى كلامه. . . فوسيلة النبي الأولى وخطوته التي نزل بها الميدان هي إقناع هذا الخضم الصاخب من الخلق أنه مجرد عن الغايات الدنيوية. وهنا كانت قوته؛