فإن أمضى سلاح في يد رجل يريد أن يقارع البشر، هو أن يواجه البشر بيد خالية من أغراض البشر
ولكن هذا لا يكفي. فالناس قد تقتنع بأمانة النبي، وقد تستمع إلى ما يقول، ولكنها لا تستطيع أن تنبذ في يوم وليلة كل ماضيها لتؤمن بهذا الكلام الجديد. إن صدر الجماهير كصدر المحيط العميق ذي الماء الكثيف، يدفع إلى سطحه كل جسم غريب، ولا ينفذ إلى أعماقه إلا شيء ذو وزن، بعد زمن وجهد. وإن الناس لشديدة الحرص على ما تسميه كنوز تراثها وتقاليدها. فما أدراهم أن هذا الكلام الجميل الذي جاء به هذا النبي ذو الحديث الطلي ليس إلا بضاعة زائفة ووهماً خلاباً لعب بلب هذا الرجل؟ ولم لا يكون هذا الرجل الأمين المسكين فريسة مرض ومس؟ ما هو الأجدر بهم عندئذ؟ يطلبون له الطب حتى يبرأ، أو يلقون بكنوزهم ويتبعون حلمه ومسه. لقد وضعت المسألة إذن وضعاً آخر، واتخذت الحرب ميداناً جديداً. ماذا يصنع النبي؟ لابد له من أن يبدد ضباب الشك المخيم على الأذهان حتى يصل إليها نور الدين. هنا صفتان لازمتان: الصبر والمثابرة، فإن العاقبة في الحرب لمن صبر وثابر. وإن أمامه لخصماً جديداً، هو الشك الذي يقوم الآن في رؤوس الناس. فإن كان حقيقة رجلاً عظيماً فليقتل هذا الشك بمفرده. وما هو بشك رجل واحد، إنما هو شك أمة طامية. ولقد جاهد الرسول فعلاً في كل لحظة من لحظات حياته، إلى أن استطاع ذات يوم أن ينقل العقيدة التي في قلبه حارة قوية إلى قلوب الناس جميعاً. وهنا كان النصر الأخير، وتمت المعجزة. وتمكن هذا الرجل الواحد من أن يضع العالم في قبضته، ويخضعه لفكرته، ويطبعه إلى أبد الآبدين بخاتمه، ويدخل إلى صدره أشعة نور جديد.