درج أكثر الناس في قياس مجد الأمم وحضارتها بمقاييس شتى أهمها النبوغ في الفنون والعلوم، أو ارتقاء النظم والقوانين، أو التفوق الحربي ووفرة الغنى واتساع الملك
وقلما جعلوا رقي الأمة الوجداني وتغلغل مبادئ الرحمة والإحسان فيها من أول مقاييس الرقي الهامة. ومادامت هذه الناحية لا تلقى من الدراسة والعناية ما يرجح كفتها، ويرفع قيمتها، لتكون الحجر الأساسي في بناء الحضارة، فسيظل العالم ولاشك بعيداً عن روح السلام والوئام
ولقد كان للحضارة الإسلامية أوفر الحظ من مبادئ العطف والإنسانية التي تجلت في نواح عدة من الحياة، فظهرت مثلاً في معاملة المسلمين لسكان البلاد التي خضعت لسلطانهم مما أنساهم عدة أجيال مذلة الفتح، كما ظهرت في معاملة الرقيق والمرأة، وتجلت في الرعاية العظيمة التي كان يعامل بها الأطفال. على أن تلك الناحية الخطيرة التي يجب أن تعتبر بحق المقياس الأول للرقي، لم تنل كل ما تستحقه من الاهتمام، فلم تأخذ مكانة المقاييس الأخرى بعد. وعلى ذلك فليس أنسب من أن ننتهز فرصة حلول العام الهجري الجديد لندرس ناحية من نواحي الرقي الوجداني عند المسلمين في العصور الماضية، فنتعرف اهتمامهم بشئون الأطفال، وتربيتهم للنشء، لنسبر غور مبادئ الرحمة فيهم
لم يكن الاهتمام بشئون الأطفال مقصوراً على الدين الذي حرم قتل الأبناء خشية الإملاق، وصان حقوق اليتامى وأموالهم، ووضع القوانين للحصانة، وقيد سلطة الأب على أبنائه، ورفع مكانة الأمة إذا أنجبت ولداً لسيدها فأصبحت بسبب وليدها في مأمن من البيع والشراء؛ بل أن موضوع تربية الطفل ووجوب تعهده بالرفق والعناية لاقى أكبر الاهتمام من كتاب المسلمين ومفكريهم. وإن روح الرفق لتبدو واضحة قوية في كل ما كتبوا. والواقع أن الشاعر العربي الرقيق العاطفة لم يكن هو وحده الذي عبر بوضوح عن هذه النزعة الإنسانية إذ قال: