الصدق هو جُمَّاع الصفات الجوهرية للأدب الصحيح. هو مطابقة الخير للواقع، ومجانسة الشيء للطبيعة، ومشابهة المثال للأصل، ومجاوبة العمل للعقيدة، وموافقة الأسلوب للقاعدة، ومناسبة الكلام للمقام، وملاءمة اللفظ للمعنى، ومواءمة الموضوع للكاتب. فلو ذهبت تتقصى أسباب ما تجد في العمل الأدبي من النقص أو الخطأ أو العبث أو الزيف أو الفساد أو التعمّل، لما وجدتها في غير الإخلال بالصدق في واحد أو أكثر من مدلولاته التي ذكرتُ. فالصفة التي لا تدل على شيء من حقيقة الموصوف، والكلمة التي لا تقع في وضعها من المعنى ولا في موضعها من الجملة، والصورة التي لا تتألف من خطوط الحاضر وألوان البيئة، والصناعة التي لا تقوم على أساس من الطبع والذوق، والحِلْية التي لا تساعد الأسلوب على التأثير والإبانة، والموضوع الذي لا يسفر عن جانب من الجمال أو الحق أو الخير، والكاتب الذي لا يقف عند ما يحسن من فنون القول؛ كل أولئك تزوير على الطبع، وافتئات على الفن، وتلفيق من الهراء لا يدخل في الأدب ولو دفعوه دفعاً في أوسع أبوابه
إذا حكَّمت الصدق في رأيك أمِنتَ التناقض؛ فلا يخالف ظاهرك باطنَك، ولا يعارض آخرك أولك. وإذا حكمتَ الصدق في أسلوبك أمنت الفضول؛ فلا تؤدي معنى بغير لفظه، ولا تضع لفظاً في غير موضعه. وإذا حكمت الصدق في نيتك أمنت النفاق؛ فلا تقول ما لا تعتقد، ولا تعتقد ما لا تؤمن بصحته. وإذا حكمت الصدق في كفايتك أمنت المجازفة؛ فلا تعالج ما لا تعلم، ولا تنقد ما لا تفهم، ولا تدَّعي ما لا تثبت. وإذا استحالت مراعاة الصدق في بعض فنون الأدب كالقَصص المتخَّيل، وجبتْ عليك مراعاة احتماله
على ذلك أسوق إليك إذا سمحت جملة من إحدى افتتاحيات الرسالة لأطبق عليها شرط الصدق في الشكل والموضوع والغرض. ولم أختر هذه الجملة لأنها من نوابغ الجمل، ولكنني اخترتها لغرض لا يشق عليك أن تلحظه فيما بعد
موضوع الجملة طفولة مجرم بالغريزة لم تفارقه نية الإجرام منذ درج إلى أن أكتهل. نشأ هذا الطفل في (قريتنا) وفي (حارتنا)، فأنا أصف حاله كما كان، وأقص أمره كما وقع. الحارة ساحة فسيحة تستدير عليها البيوت، فكأنها صحن دار كبيرة. والأطفال - وأنا منهم - يلعبون في بُهرتها شتى الألعاب في مرح وبهجة؛ فإذا طلع عليهم هذا الصبي الشرير من