للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نظرية النبوة عند الفارابي]

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

- ٥ -

اعتنق الفارابي، بعد الكندي، نظرية أرسطو في الأحلام وقال معه إنها أثر من آثار المخيلة ونتيجة من نتائجها. ولا بد أن يكون القارئ قد لاحظ في التفاصيل والجزئيات تشابهاً واتصالاً أكثر من هذا بين رأي الفيلسوف العربي والفيلسوف اليوناني؛ فإن الفارابي يعتد بالميول والعواطف ويثبت مالها من أثر في تكوين الأحلام وتشكيلها. ويرى كذلك أن للطبائع والأمزجة دخلاً كبيراً فيها. وكل تلك أفكار رددها أرسطو من قبل.

بيد أن مؤسس الليسيه يجهد نفسه دائماً في أن يبعد عن مذهبه التفسيرات الدينية والتعليلات القائمة على قوى خفية وأسرار غامضة. ونزعته الواقعية تغلب عليه في دراساته النفسية كما استولت عليه في أبحاثه الطبيعية والأخلاقية. لهذا نراه يرفض أن تكون الرؤى وحياً من عند الله، ولا يقبل مطلقاً التنبؤ بواسطة النوم. لأن الأحلام ليست مقصورة على طائفة دون أخرى، وفي مقدور العامة والدهماء أن يدعوا التنبؤ بالغيب عن هذا الطريق، وهذا ما لا يسلم به أحد. وهنا يفارق الفارابي أستاذه ويقرر أن الإنسان يستطيع بواسطة مخيلته الاتصال بالعالم العلوي واختراق حجب الغيب والوقوف على المكنون والخفي. ولكن يجدر بنا أن نعقب على هذا مسرعين بأن الفارابي وإن خالف أرسطو فأنه يخالفه في نقطة محدودة؛ ذلك لأن الاتصال بالعقل الفعال عن طريق المخيلة لا يتم في رأيه إلا لطائفة ممتازة وجمع مختار، وإذا كان الفارابي وفق لحل موضوع المقامات والرؤى فلم يبقى أمامه إلا خطوة واحدة لحل مشكلة النبوة. فإن المخيلة متىتحررت من أعمال اليقظة المختلفة استطاعت أثناء النوم أن تصعد إلى سماء النور والمعرفة. وإذن متى توفر لدى شخص مخيلة ممتازة تمت له نبوءات في النهار مثل نبوءات الليل، وأمكنه في حال اليقظة أن يتصل بالعقل الفعال مثل اتصاله به أثناء النوم، بل ربما كان ذلك على شكل أوضح وصورة أكمل. فالنبي في رأي الفارابي بشر منح مخيلة عظيمة تمكنه من الوقوف على

<<  <  ج:
ص:  >  >>