- لا يا عزيزي؛ أنا لا أتابعك على هذا التفسير. إن رأى الإمام محمد عبده جلي صريح. وكلمة (ينهض) في قوله المأثور: (لا ينهض الشرق إلا بمستبد عادل) أساس فكرته وعمود رأيه؛ فإن النهوض لا يكون إلا من القعود؛ والأمة القاعدة أو الراقدة لا يبعثها إلا القرع الشديد والهتاف القوي؛ ولا يمكن أن يكون هذا القارع الهاتف رأيها العام لأنه مفقود، ولا ضميرها الاجتماعي لأنه ميت؛ إنما يكون رسالة من الله على لسان نبي، أو هداية من الطبيعة على يد مصلح؛ وتنفيذ الرسالة الإلهية، أو الدعوى الإصلاحية، يرجع إلى خليفة يحكم بأمر الله، أو طاغية يحكم برأي نفسه. فإذا كانت الأمة قد نهضت بالفعل، كان الاستبداد بأمورها كفاً لنزعاتها عن الطموح، وحبساً لملكاتها عن العمل؛ لأن النهضة معناها غافل أحس وجوده، وخامل فهم نفسه، وجاهل عرف حقه، وعاطل أبصر واجبه، وضال وجد سبيله. والحياة التي تسري في أفراد الشعب الناهض، هي بعينها الحياة التي تجري في أعواد الربيع المنبعث: تتحرك في الأمة على صوت النذير في الغفلة، كما تتحرك في الطبيعة على هزيم الرعد في الشتاء. ومتى نفخ الله من روحه في خمود الحي، سيره على سنة الوجود وبصره بغاية الحياة؛ وهنا يكون المستبد مهما عدل سحاباً يحجب النور الذي أنبثق، وسموماً يصوح الزهر الذي تفتح
فقال صاحبي الشاب وقد ألقى باله لما قلت ففترت حماسته بعض الفتور:
- ولكن المستبد برأيه أو الحاكم بأمره يختصر الآراء في رأيه، ويجمع الأهواء على هواه. فنأمن التشرد الذي يضل، والتردد الذي يعوق، والتواكل الذي يضعف، والتساهل الذي يحابى. فقلت له:
- ذلك يصح والشعب لا يزال قطيعاً من الحيوان الأبله. لابد له حينئذ من الراعي وعصاه. أما إذا أصبح هذا القطيع أمة لكل فرد من أفرادها كرامة وإرادة ورأي ومصلحة، فبأي منطق تلغي هذه العقول الملايين التي جعلت لنفكر، وتنسخ هذه النفوس الملايين التي خلقت لتريد، لتجعل مكانها نفساً واحدة تغصب قوة الشعب لتقوده، وتسرق ثروته لتسوده. ثم يسرف عليها سلطانها فتتخذ الناس عبيداً والبلاد ضيعة؟