أنصف المؤرخون عمر بن الخطاب رضي الله عنه كخليفة عظيم، فكتبوا عنه الأسفار المتنوعة التي تبرز سياسته الفذة في حل المعضلات وتوجيه الأمور، ولكننا لا نجد فصلاً واحداً منها تعرض إلى ما كان له رضي الله عنه من ذوق سليم في نقد الشعر وقدم راسخة في تفهم مراميه، مما انتثر في كتب الأدب عقده، دون أن يظفر بمن يجمع نظامه في سلك خاص. وهكذا نجد كثيراً من عظماء التاريخ قد تعددت مواهبهم، وتشعبت نواحي عبقريتهم فكتب المؤرخون عن أبرز ناحية في شمائلهم، تاركين ماعداها في ذمة النسيان والخمول!
والحق أن عمر رضي الله عنه كان واسع المحفوظ من جيد الكلام، حتى قال محمد بن سلام الجمحي:(ما عرض لابن الخطاب أمر إلا واستشهد فيه بالشعر) ورجل يملك هذه الثروة الواسعة من القوافي، لابد أن يكون ذا ولوع بالمعاني الجيدة، والأساليب الرائعة، فهو ينظر فيما يسمعه نظرة الباحث الناقد، ثم يحفظ ما يروقه ويعجبه، مستشهداً به في موضعه، مثنياً على صاحبه بما يستحق من تقدير.
ولقد كان يقول (أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر يقدمها في حاجته، يستعطف بها قلب الكريم ويستميل فؤاد اللئيم) ويقول أيضاً (الشعر جذل من كلام العرب تسكن به ثائرتهم، ويطفأ غيظهم ويبلغ به القوم في ناديهم، ويعطى به السائل) وفي هذا ما يكشف لنا عن غرامه بالشعر والشعراء. . . وإذا كانت الطيور لا تقع إلا على أشكالها، فإن أبا حفص قد تفرس في أصحابه فوجد عبد الله بن عباس يروي القصائد الجيدة وينتقد ما يعرض له من أبيات فقربه واجتباه، وكثيراً ما اختلى به الساعات الطويلة يتناشدان ويتطارحان، قال ابن عباس (خرجنا مع ابن الخطاب في سفر فقال: ألا تزاملون؟ أنت يا فلان زميل فلان، وأنت يا فلان زميل فلان، وأنت يا ابن عباس زميلي، وكان لي محباً ومقرباً، حتى كان كثير من الناس ينفسون على مكانتي منه فزاملته فأخذ ينشد:
وما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمّد
ثم قال: يا ابن عباس، ألا تنشدني لشاعر الشعراء؟ قلت ومن شاعر الشعراء؟ قال زهير،