فقلت لم صيرته كذلك؟ قال:(لأنه لا يعاظل بين الكلامين، ولا يتتبع الوحشي، ولا يمدح أحداً بغير ما هو فيه) فعمر يفضل زهيراً على من عداه، مبيناً أوجه التفضيل، وهذه سنة حميدة في النقد. فلقد كان من قبل عمر من الرواة، إذا نقدوا شعراً قالوا إنه برود يمنيّة تطوى وتنشر، أو قالوا إنه سمط الدهر، أو قالوا إنه مزاد لا يقطر منه شيء إلى آخر هذه التشبيهات المجملة التي لا تفصل حكماً ولا تعلل رأياً، فجاء عمر في نقده بالتفصيل الواضح، والتعليل المقبول.
وليس من الغريب أن يخالف الفاروق ما أجمع عليه كثير من أئمة النقد في الأدب، فيفضل زهيراً على امرئ القيس، لأن عمرذوّاقة، يسبر الشعر بعقله فلا يعجبه منه إلا ما جاء متمشياً مع المنطق السليم، فكان نبيل الغرض، رائع الحكمة، وزهير حكيم فذ يزن الأشياء بميزانها الدقيق، فلا يفحش في غزله، ولا يتعابث في تصابيه، بل يسوق الحكمة تلو الحكمة رائعة ساطعة. تجذب إليها كل مفكر حصيف. أما امرؤ القيس فمن المحال أن يرضى عنه عمر، وجل شعره في مغازلة الحسان، ومعاقرة الخمور، والاسترسال مع الصبوة إلى أبعد شوط، وهذه أغراض لا يهش لها الحكماء من قادة الرأي وأساطين الفكر كعمر بن الخطاب.
سمع رضي الله عنه مرة قول زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء
فأخذ يحرك رأسه في عجب ويقول في تبسم: (إنما أراد أن يبين أن مقطع الحقوق يمين أو حكومة أو دية كما جاء به الإسلام
ولقد كان النابغة الذبياني يلي زهيراً في المنزلة لدى الفاروق لأن زياداً أقرب إلى زهير منه إلى امرئ القيس، فقد كان متئد التفكير، شريف الغرض؛ وإعجاب عمر به يرجع إلى ما سمعه من أبياته التي تتحد مع أبيات زهير في المنطق والسداد (لقي عمر ابن الخطاب وفد غطفان فقال: أي شعرائكم الذي يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
فقالوا النابغة. فقال من القائل:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتآى عنك واسع