. . . وأراد خالك أن يقذف بغيظه المضطرم في وجه أبيك فما استطاع، لأنه تربه في الدار والغيط، وزميله في اللهو والعبث، وصاحبه في زمن الشباب والفتوه، ورفيقه في أيام الشدة والرخاء؛ ولأنه رأى فيه صمتاً استشف من ورائه الضيق والندم، وأحس من خلاله ثورة مكفوفة تجيش أحياناً ثم تتوارى في حزن وكمد، ولمس فيه أوبة حائرة مضطربة لا تكاد تبين عن رأي، ولأنه ألفى الدار تموج بأشتات من الناس تعلت نياتهم وسقمت ضمائرهم، فيهم اللؤم والشماتة، يتربصون بالرجل - أبيك - الدوائر لينالوا من كرامته ويتندروا برجولته. فجلس بازاء أبيك صامتاً وإن الثورة الجامحة لتوشك أن تجتاحه، وإن الحزن المرير ليكاد يعصف به، وإن الأسى العارم ليصعره عصرا. . .
واعتركت في نفس خالك عوامل الغضب والرحمة: الغضب مما كان من أبيك، والرحمة به لأن ألسنة وضيعة لاكت رجولته التي لم تخدش يوماً، ثم تراءت له خالتك وهي تصرخ صراخاً فيه فزع والرعب، صراخاً يتحدث عن أسى الأم فقدت بنيها الثلاثة دفعة واحدة. . . تراءت له وهي تفزعه بالنواح وتستحثه بالأسى، فهب من مكانه ثائرا يريد أن يقذف بغيظه المضطرم في وجه أبيك، ولكن. . .
ولكنه هب فجأة ليرى أمامه ناظر العزبة، لقد دخل الرجل على حين فجأة من الناس، وعلى وجهه سمات الشجن، وفي مشيته علامة الاضطراب، وراح يتحدث بكلمات حزينة متقطعة لا تكاد تفصح عن معنى. وقص الرجل على الملأ قصة الصبية الثلاثة الذين طاروا من دار أبيهم يقطعون الطريق الوعر الطويل يضنيهم الجهد وترهقهم الهاجرة ويقتلهم الضنا
وماتت الكلمات على الشفاه، ثم ما لبث الجمع أن انفض في صمت، وخلا المكان إلا من رجلين - أبيك وخالك - يتحدثان حديث الأخوة والصداقة، فرضى خالك
ثم صفرت الدار إلا من رجل واحد يلفه الظلام والسكون، رجل ينبض قلبه بالحنان وتخفق