روحه بالرحمة وتضطرب نفسه بالندم، ثم شملته اللوعة الفوارة فطفرت من عينيه عبرات تشهد بأن قلب الأب لا ينطوي - أبداً - إلا على الرقة والمحبة، ولا ينضم إلا على العطف والشفقة. وأرقته الحادثة فما هدأ إلى مضجعه حتى مطلع الفجر
وهبت نسمات الفجر الندية توقظ أباك من غمرة الفكر وتزعجه عن نوازعه الأرضية، فانطلق صوب المسجد ليلف أتراجه في سبحات النور الإلهي التي تغمر القلب حين ينزع عنه ترابية الأرض ليعيش حيناً في دفقات النور السماوي. وبين يدي المحراب خلص أبوك من ضنا نفسه وخلع ثوب الأسى عن نفسه، غير أن عبرات حرى مازالت تترقون في محجريه
وخرج أبوك من المسجد وقد أفعم قلبه بالبغضاء والكراهية للفتاة التي أوحت إليه أن يرفع الطعام الشهي من بين يدي الصبية الصغار أحوج ما يكونون إليه، ليعيشوا حيناً في العناء والجهد والجوع.
الآن خسرت الزوجة الحمقاء - في لمحة واحدة - السعادة التي كانت تطمع أن تستخلصها لنفسها يوم أن تفزعك عن الدار التي ضمتك في حنان ونشأتك في عطف. . . خسرت السعادة لأنها فقدت قلب الزوج وعطف الرجل وهدوء النفس، فقضت عمرها في ضيق ونكد لأن نزوات شيطانية سيطرت عليها فدفعتها فارتكبت حماقة هوجاء افتضح أمرها فأقضت مضجعها وهدمت حياتها وحطمت أملها.
يا لعدل السماء! إن الحفرة التي حفرتها الفتاة لتقذف فيها بثلاثة من الصبية الأبرياء قد فتحت فوهتها في شره وغلظة لتبتلعها هي ولتبث فيها زهرة العمر تذوق وبال الوحدة والانكسار والألم جميعاً.
وفي بكرة الصباح هم أعمامك - وهم كثر - صوب العزبة يريدون أن يختلوا الصبية عن العقل، ويخدعوهم عن المنطق، ويسيطروا عليهم بكلمات براقة جوفاء. ودخلوا عليك وأنت تتناول طعام الصباح - بين أخويك - في لذة وشهية، في جو من المرح والمحبة، وقد طمت النشوة على أتراح الأمس. . . دخلوا فابتسموا وابتسمت. وأذهل الرجال أن يسمعوا في صوت هذا الصبي رنات الجد والحزم، وأن يجدوا في حركاته معاني الرجولة الآمرة المسيطرة. وأخذ عمك يزوق كلاماً فيه الرقة والطلاوة يريد أن يختلك عن العقل، ويخدعك