اليوم يوم من الأيام التي طواها القرن الثامن عشر بانطوائه. والبلد لندن حين لم يكن لها هذا الشأن الكبير، ولا لمرافقها الصحية هذا الخطر الكبير، ولا لأهلها هذه الثقافة وهذا اليسر المعروف. والدار دار المحكمة وهي التي تقع في سرة ذلك البلد العتيق.
ففي ضحوة ذلك اليوم أخذ الناس يتوافدون على تلك الدار زرافات ووحدانا. هذا مجرم فاجر وفي عينيه القسوة وفي مشيته التحدي، يقوده رجال من الشرطة على حذر وريبة. وهذا مجرم منكسر الحال وفي طرفه الذلة يقوده شرطي، وهؤلاء نفر من ذوي هذا المجرم أو ذاك في أثوابهم تهدل القِدَموعليها لون السنين، وفي أحذيتهم خروق السعي المتواصل، وعلى وجوههم شحوب الجوع وهم الرزق وقذارة الفقر، أو صفرة المرض أو سحنة الإسراف في فنون الدعارات الرخيصة. وهذا أحد المحلفين جاء يمشي في زهو المسيطر، وخيلاء الحاكم، وإلى جانبه صاحب له يرفع عقيرته يجادل صاحبه في شأن من شئون القضاء، يريد أن ينبه من حوله من الطغام أنه خبير بالقانون بالرغم من كونه محلف، عالم بسياسة الملك وتقسيط العدالة على الرغم من أنه أختير من صفوف السوقة وغوغاء الرعية. وهذه عربة فخمة برز منها رجل أنيق الملبس ناعم الحال في وجهه حمرة النعمة وفي جلده دهن الموائد، جاء للتفكه والتسلية لما أعوزه ما يشغل به وقته.
أما في داخل الدار فقد أخذت المقاعد تمتلئ، ثم ما بين المقاعد ثم الزوايا والأركان، وامتلأ ما بين المقاعد والسقف بأنفاس ثقيلة تكاد تسقط، وأبخرة كثيفة ندية تكاد تتقطر، ورائحة تألفت من روائح ذات أسباب عدة كلها مما لا يطيب إلا في أنوف الكلاب. ودخل المحلفون فأثار اهتمام الجمهور وعلم الناس حينئذ أن القاضي يكاد يدخل القاعة، ولم يلبثوا أن صاح بهم صائح قي صوته قوة وإمرة (وقوفاً) فوقف الناس ودخل صاحب الجلالة القضائية وعلى رأسه عارية من الشعر بيضاء، كأنما تطمئن الناس إلى عدل القضاء. وجاء الناس وأفتتحت المحكمة وجيء بالمذنب بعد المذنب وقام الاتهام فصال وجال وبالغ في وصف الجرم ما شاء له حرصه على المجتمع أن تعبث به يد الفساد، وتذهب بطمأنينته نزعات