للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من

الشر خالدة في نفوس البشر. وقام الدفاع فأنكر الجريمة فدفع الحجة بالحجة والغضبة بغضبة أشد منها وتقبضت كفاه، ولما لم يكن من حسن اللياقة دخول الأكف في النقاش أنهال على المنضدة حتى أوجع كفيه، ولكن ذلك كان ثمناً طيباً للأثر الطيب الذي كان لدفاعه عند الجمهور. وجاء دور المحلفين فقالوا كلمتهم، وجاء دور القاضي فنطق بالأحكام. وانقضى اليوم والجمهور بين راض وحانق. ومضى أسبوع فأسبوع فشاع في الناس أن رئيس المحلفين قد مات، فعلم الحانقون انهم كانوا مصيبين في حنقهم وإن الحكم كان خاطئاً، وقال الراضون إن هو إلا سهم طائح طائش عارض من سهام عزرائيل أصاب المرحوم اتفاقا. ومضى أسبوع وشاع بين الناس إن إثنين من المحلفين قد ماتوا، فزاد الحانقون حنقاً على الأحكام، وأخذ الراضون يرتابون من صحة الميزان، ولكن الحق وضح واليقين تجلى لما مات القاضي بعد ذلك بأسبوع. وهل مات أحد من الجمهور؟ بالطبع لم يبلغ الناس شيءمن ذلك، وما كان من الممكن أن يبلغهم.

وجاءت جلسة قضائية تعقبها جلسة أخرى. فزادت الجنائز وامتلأت المقابر وسر الدفانون. فبان ما لم يكن بائناً من قبل، ذلك أن جمهور النظارة أيضاً حصد منه الموت أكبر حصاده، وزالت الرابطة ما بين الأحكام وبين الأموات، وعلم الناس إنه وباء من تلك الأوبئة التي يبعثها الله على عباده من حين إلى حين لغرض لا يعلمه إلا سواه، وخافوا تلك المحاكم واستشأموا منها وأسموها السوداء.

وفي هذا الشهر الحالي من القرن الحالي في مدينة القاهرة في أشد عيادات العالم المتمدن ازدحاماً وقذارة وسوء حال، وقع حادث كما ذكرناه فأصيب بضعة من أطباء القصر العيني ومساعديهم بنفس ذلك المرض الذي ذكرناه، ولكن علم الإنسانية بأعداء الإنسان زاد كثيراً، وفقهه للأوبئة تقدم تقدماً كبيراً، فما كادت تعرض الأعراض، على المنكوبين المذكورين حتى عرف المرض الخبيث وأسرع إليهم بالعلاج، أو بالقدر الذي يستطيعه الإنسان من ذلك في المرحلة الحاضرة من تقدمه في فهم هذا المرض، والذي نتمناه ألا تنشر هذه الكلمة حتى يدخل الأطباء المصابون دور النقاهة، والذي نتمناه أن يمن الله على من لم نسمع بهم ممن لاشك قد أصيبوا من المرضى الخارجين بالقصر العيني، والذي نتمناه أن يكون هذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>