درس نافع للجميع لا للقاهرة فحسب، بل في الريف كذلك.
أما التيفوس فمرض من أخبث الأمراض، ولاشك أنه قديم ولكن القدماء لم يتبينوه لاشتباه أعراضه بأعراض الحميات عامة، وهو قد يتوطن في الأقطار فتظهر منه إصابات قليلة، ولكنها ثابتة العدد لا تتغير إلا يسيراً، وقد يمتد في القطر فينتشر وباؤه فيحرث في الناس حرثاً، ففي الوافدة التي زارت أيرلندا عام ١٨٤٦ حصد التيفوس من عاصمتها وحدها نحواً من ستين ألفاً. ويساعد على إحياء التيفوس ونشره ازدحام الناس مع سوء الغذاء والقذارة، لذلك تراه يظهر في الحروب بين الجيوش، وآخر أمثلة ذلك الوافدة التي زارت بلاد الصرب في الحرب العظمى، وذلك إن النمسا هاجمت البلاد الصربية لأول مرة فهاجر السكان من غير المحاربين إلى الجنوب في ازدحام وفاقة وعري وسوء حال، فأستيقظ الوباء النائم وبلغ أشده في عام ١٩١٥، وعندئذٍ خافت النمسا على جيوشها وكانت تنوي مهاجمة الصرب المرة الثانية فأجلتها، وقام هذا المرض الوبيل نيابة عنها ففتك بالصرب أشد فتك فمات منهم بسببه في ستة أشهر مائة وخمسون ألف نفس.
والتيفوس تنتقل عدواه بواسطة القمل، وبالقمل وحده على قدر ما حقق الباحثون. ومن الغريب أن هذه الحقيقة لم تدخل دائرة اليقين إلا في عام ١٩٠٩ فأنهم حقنوا قرداً بمقدار من دم مريض بالتيفوس فانتقلت العدوى إلى القرد فربوا عليه قملا ونقلوا هذا القمل إلى قردة أخرى فأصابتها العدوى. وهذا يفسر لنا أن التيفوس يحصل إذا اجتمعت الزحمة والفقر وفي الحروب، ولقد صدق من أسماه (داء القذر) ويفسر لنا سرعة انتشاره من مريض لصحيح، ومن المريض للطبيب، ويفسر لنا أنه ينتشر في البلاد المعتدلة وفي الباردة على الأغلب في الشتاء أي في الحين الذي يرغب فيه الناس ولا سيما فقراؤهم عن الاستحمام وفي الحين الذي يزدحمون فيه في المساكن والقيعان رغبة في الدفء وهرباً من البرد.
أما سبب المرض فغير محقق تماماً إلى الآن. يظن بعضهم إنه فعل جراثيم دقت حتى عجزت عن رؤيتها أكبر المجاهر، وصغرت حتى عجزت مرشحات الجراثيم المعروفة عن حبسها، ولكن أكثر البحاث اليوم يرون أن هذه الجراثيم على صغرها يمكن ترشيحها، ودليلهم على ذلك أن دم المريض إذا رشح ثم حقن الراشح منه في جسم سليم لم تصبه