كان المسلمون حينما ثاروا ثورتهم على بني مروان ينشدون في بني العباس حكماً يعيد لهم عهد الخلفاء الراشدين، ويكون خليفتهم فيه كأحدهم لا يؤثر نفسه بشيء من أمور الدنيا عليهم، ولا يأخذ لنفسه من أموال الدولة إلا ما يفرضونه له منها، كما فرضوا لأبي بكر وغيره، فلم يحقق لهم بنو العباس كل هذا الرجاء، بل ظهروا بأبهة الملك التي كان يظهر بها بنو مروان، واستأثروا لأنفسهم بأموال الدولة، وجعلوها ملكاً لهم ينفقون منها في مصالح المسلمين ما تجود به أنفسهم، وما يبقى بعد حاجتهم، وحاجات أهل بطانتهم وحاشيتهم، وكذا أهل الملق من الشعراء والندماء ومن إليهم، ولم يحققون للمسلمين من كل ما أملوه فيهم إلا هذين الأمرين المهمين: المساواة بين الشعوب الإسلامية في حكم الدولة، وتحضير الدولة الإسلامية بالثقافة العلمية الواسعة التي أحسنوا البلاء فيها
وقد انقسم المسلمون في شأن هذه الدولة بعد قليل من ظهورها إلى قسمين: فتجافاها أهل الورع منهم وأبوا أن يتولوا أعمالها، وسار معها جمهور المسلمين في ذلك السبيل الذي سارت فيه، واستولى عليهم اليأس من ذلك المثل الأعلى في الحكم الذي كان على عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ثم أقبلت الدنيا عليهم فانغمسوا فيها أيما انغماس، وتفننوا في أنواع التلذذ بها أيما تفنن، وكادوا ينسون الآخرة كما نسيها من كان قبلهم، فكانوا في أشد حاجة إلى شاعر ملهم يوقظهم من تلك الغفلة القاتلة، ويؤدي في الشعر رسالته التي يجب أن يؤديها في كل عصر على الوجه الذي يتطلبها، وكان لهم ذلك في شاعرنا أبى العتاهية
ولد أبو العتاهية سنة ثلاثين ومائة من الهجرة قبل قيام الدولة العباسية بسنة أو سنتين، ونشأ بالكوفة ولكن أصله من عين التمر، وأبو العتاهية لقبه، واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان مولى عنزة، وكان خالد بن الوليد قد سباه مع جماعة صبيان من أهل عين التمر، فوجه بهم إلى أبي بكر، وكانوا أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل، ففرقهم في أهل البلاد والأمصار، فاعتنقوا الإسلام وأعتقهم مواليهم، فكان لهم أثر صالح في العلم والأدب،