ونبغ من أولاًدهم جماعة كانوا من أكابر رجال العلم والسياسة والحرب، مثل موسى بن نصير، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن إسحاق. وكان كيسان جد أبي العتاهية من نصيب عباد بن رفاعة العنزي، لأنه سمعه حين سأله أبو بكر عن نسبه يذكر له أنه من عنزة، وكان يكفله في عين التمر قرابة له منهم، فاستوهبه عباد من أبي بكر ثم أعتقه فتولى عنزة؛ وكان بنوه يزعمون أنهم منها ويكرهون من ينسبهم إلى النبط الذين كانوا يسكنون عين التمر، ولكن الظاهر أن أصلهم منهم، لأنهم كانوا يحترفون بالكوفة من صنعة الجرار ما كانت تأباه فطرتهم لو كانوا عرباً
وقد نشأ أبو العتاهية بالكوفة بين أسرته يعمل الجرار معهم، ولم يذكر الرواة أنه اشتغل بالتعليم في صغره، ولكن الظاهر من أمره أنه اشتغل بقدر منه كان له عوناً في الحياة التي آل إليها أخيراً أمره؛ وكان بالكوفة طائفة من خلفاء الشعراء وأهل المجون والمخنثين، وناهيك بشاعرها والبة بن الحباب الأسدي وما بلغ إليه في الخلاعة والعبث، وهو في ذلك أستاذ أبي نؤاس وغيره، فاتصل أبو العتاهية بتلك الفئة اللاهية، وأطلق لنفسه في ذلك عنانها، فوصل فيه إلى غايته، وتخنث وحمل زاملة؛ وأخذ عنهم شعرهم الخليع في التغزل والمجون وما إليهم، فنبغ فيه، واشتهر به أمره، وكان الأحداث والمتأدبون يأتونه وهو جرار فينشدهم أشعاره، فيأخذون ما تكسر من الخزف فيكتبونها فيه
ثم قصد بغداد في عهد المهدي ليتصل بأمرائها. ويستفيد بشعره عندهم، وكان ثالث ثلاثة فتيان شباب أدباء، ولم يكن لهم ببغداد من يقصدونه، فنزلوا غرفة بالقرب من الجسر، وكانوا يبكرون فيجلسون بالمسجد الذي بباب الجسر في كل غداة، فمرت بهم يوماً امرأة راكبة، معها خدم سودان، فقالوا من هذه؟ قالوا خالصة، فقال أحدهم: قد عشقت خالصة، وعمل فيها شعراً فأعانوه عليه، ثم مرت بهم أخرى راكبة، معها خدم بيضان، فقالوا من هذه؟ قالوا عتبة، فقال أبو العتاهية: قد عشقت عتبة؛ ولم يزالوا كذلك إلى أن التأمت لهما أشعار كثيرة فيهما، فدفع صاحب خالصة بشعره إليها، ودفع أبو العتاهية بشعره إلى عتبة، وألحا في ذلك إلحاحاً شديداً، فمرة تقبل أشعارهما، ومرة يطردان، إلى أن صح عزم الجارتين على امتحان عاشقيهما بمال على أن يدعا التعرض لهما، فإن قبلا المال كانا مستأكلين، وإن لم يقبلاه كانا عاشقين، وكان لهما معهم شأن في الحالين. فلما كان الغد مرت