كتب الكاتب القدير الأستاذ عباس محمود العقاد مقالاً رد فيه على مقالتي في (ندرة البطولة)؛ وأنا سعيد حقاً بهذا الرد الممتع، فقد أبان فيه جانباً من جوانب الموضوع، وأوضحه أيما إيضاح، ودعمه بالحجج والبراهين القوية
وحبذا لو اتخذ هذا المقال مثلاً للناقدين، فيناقشون ما يعرض من الأفكار في هدوء وجد وتفكير عميق وأسلوب مهذب، ولا يكون لهم غرض إلا الوصول إلى الحق وتجليته
ثم نعود بعد إلى موضوعنا، فيخيل إلي أن ليس بيني وبين الأستاذ العقاد خلاف إلا في مسألة واحدة متى حددت ظهر وجه الصواب وانكشف جانب الحق
تلك هي تحديد ما نريد بالنابغة أو البطل، وما نريد بالمقارنة بين العصر الماضي والعصر الحاضر.
مقياس النابغة في نظري أن يفوق أهل زمانه ويسبقهم في فنه أو علمه أو أدبه حتى لا يدركوه إلا بعد أزمان؛ وعلى مقدار هذا السبق يكون النبوغ. فسيبويه نابغة في النحو لأنه رأى من قواعده ما عجز أهل زمانه عن النظر إليه، وفاقهم في ذلك بمراحل؛ واسحق الموصلي نابغة لأنه ابتدع من الفن ما لم يعرفه فنانو عصره، وكان في ذلك هو السباق وهم المقلدون. وقل مثل ذلك في الجاحظ وأبن الرومي وشكسبير وجوته. فأما إن هو عرف ما يعرفه أهل زمانه، أو أتى من الفن بما يأتيه أهل زمانه، فلسنا نسميه نابغة وإنما نسميه عالماً أو فناناً
هذه مسألة، والمسألة الأخرى أننا إذا أردنا أن نقارن عصراً بعصر في كثرة النبوغ وندرته، فلا نقارن معلومات عصر بمعلومات عصر، ولا فن عصر بفن عصر، إنما نقارن مسافة البعد بين النابغين في عصر وبين عامة المتعلمين فيه؛ ونفعل مثل ذلك في العصر الذي نريد أن نقارن به. فإذا أردنا المقارنة بين العصر العباسي الأول - مثلا - وبين عصرنا الحاضر في الأدب، وازنا بين ابن المقفع والجاحظ وبشار وأبي نواس، وبين الكتاب العاديين والشعراء العاديين في ذلك العصر، وقسنا مسافة البعد بينهم؛ ثم فعلنا مثل ذلك في عصرنا الحاضر، فإن كانت مسافة البعد بين البارزين والعاديين في العصر