للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

تذكرة سفر من طنطا إلى سقر

للأستاذ إبراهيم جلال بك وكيل محكمة الزقازيق الأهلية

كان بإحدى ضواحي مدينة طنطا قروي له فتيان أحدهما جميل المحيا، مفتول العضل، تام الرجولة، كأبيه في الاستقامة والدأب على حرث الحقل ورعاية الماشية واسمه حسن. أما الآخر واسمه يونس فكان على نقيض أخيه، خامل الذكر، دائم التلهي بمعاكسة جيرانه، يسد مسيل الماء عنهم، ويسرق أمطار الذرة، ويسلبهم دجاجهم وسائر ما يكنزون.

وكان أبوهما مصطفى كهلاً أرمل، ولكنه عرف بالنجدة وصلابة العود، قد أخرجته الجندية متين البدن، وأكسبته سكنى المروج الخضر حدة في البصر.

وماتت زوجته والغلامان في الطفولة الأولى، وكان قد أدخر بقية من نقود الجندية فابتاع بها حقلاً زرعه نصف فدان وأحسن القيام عليه حرثاً وإنباتاً، وأقام تحت ظلال صفصافه عالية كوخاً صغيراً وسد به الحشائش الجافة وأضجع فيه طفليه واتخذ حوله سياجاً من قصب الذرة، ومهّد في ناحية من السياج مناخاً للدواب أسكن به شاة ذات أحمال وعنزات صغار. وكان الشيخ قد عرف بحسن الرماية وإحكامها من عهد أن كان في مصاف الجيش، ولديه قلائد الشرف حازها بحسن بلائه وبسالته في فتوح السودان. وقد رآه أهل القرية غداة العيد يحمل تلك القلائد ويخطر في الدرب عند باب العمدة كما شهد له العمدة بحسن السمت حين حياه مسلماً في أدب الجند وسكينتهم، وحين تناول قدح القهوة ثم أنقلب إلى كوخه الصغير بين غلاميه وماشيته.

وكان مصطفى قد اتخذ لنفسه محراباً للعبادة في ظل تلك الشجرة، فإذا أنشق الغسق عن غرة الفجر قام إلى قناة الماء فاغتسل ثم جثا في المحراب بقلب سليم، وكان هذا حاله في المواقيت الخمسة.

فكان الله في عونه حتى ترعرع الغلامان، وجاوز حسن سن الخامسة عشر ولحق به أخوه يونس، وزكا الزرع ودر الضرع وسال النضار بكف الشيخ مسيل الماء في حقله، فلم تطغه إخلاف الرزق وسعة العيش، وعكف على تثقيف ولديه في مكتب القرية، فحذق حسن فن الكتابة والحساب؛ أما أخوه فكان غافل اللب، ينسل من المكتب مع رفقة له فيتسكعون في

<<  <  ج:
ص:  >  >>